مدينة "مطرح" في ثلاث قصص عمانية معاصرة (3-3)

د. إحسان اللواتي – جامعة السلطان قابوس


  انتهينا في الحلقة السابقة/ الثانية إلى القول بأنّ الحقائق الأدبية التي لا يتطرق إليها شك أنَّ المكان "سواء أكان واقعياً أم خالياً يبدو مرتبطاً بل مندمجاً بالشخصيات" (20)0 فالشخصيات تحيا في المكان ، وغالباً ما تربطها به وشائج وصلات تتصل بذاكرتها ، وتؤثر في حاضرها، وتسعى إلى رسم ملامح مستقبلها0
وبدهي بعد هذا ألاّ يكون المكان محايداً معزولاً عن كل المكنونات  الرؤيوية والعاطفية للشخصيات ، فهو مؤثر فيها ومتأثر بها، وهو أداة مهمة بيد الأديب لإبرازها للقارئ بنحو تعبيري مؤثر ، ففي وسع الأديب " أن يحّول عنصر المكان إلى أداة للتعبير عن موقف الأبطال من العالم  "  (21)0
3- إشكالية الانتماء:
ثمة قضية لا مناص مـن الانتباه إليها والترقب لأثرها ونحن نتحدث عن أهمية مطرح في القصص الثـلاث ، هي أنَّ الشخصية الرئيسة في كل منها ليست في الأصل من مطرح ، وإنما وفدت إليها من مكان آخر يختلف في صفاته وظروفه عنها0 ففـي كل من " قناديل مطرح" و " بوابات المدينة " نجـد أنَّ الشخصية الرئيسة قد أتت من قريةٍ ما لم تحدد بالاسم ، وفي " يوم صمت في مطرح" أتت الشخصية من نزوى 0 وهذه ، وإن لم تكن قرية ، تختلف اختلافاً كبيراً عن مطرح0
هذه الحقيقة كفيلة بأن تستثير أمامنا سؤالاً مهماً يرتبط بإشكالية الانتماء: أكان وجود هذه الشخصيات في مطرح مترافقاً مع استقرار نفسي واطمئنان وجداني نابع من شعور حقيقي بالانتماء إليها أم أنها ظلت مرتبطة القلب ومعلقة الفؤاد بمكانها الأصلي تتحين الفرصة الملائمة للعودة إليه؟
تستوقفنا في البدء ملاحظة ترتبط بعنوان القصة الأولى:" قنــاديل مطرح" ، محصلها أنَّ الكلمة الأولـى ( قناديل ) لم ترد في القصة كلها0 نعم وردت فيها " قنديل " بصيغة الإفراد ، ليس عند الحديث عن مطرح ، وإنما عند الحديث عن ذكريات القرية :
"وهو صياد يزف ظلمة الليل وهدير الأمواج بقنديل صغير ، يحمل شباكه على ظهر قاربه ويدشن البحر" (30) 0
عنوان القصة إذن يربط شيئاً- كان أساساً مرتبطاً بالقرية – بمطرح ، وكأنَّ الوجود في مطرح يتلخص في البحث عن شيء كانت الشخصية قد تركته وراءها في قريتها0 والبحث ليس عن قنديل فرد، وإنما عن " قناديل" بصيغة منتهى الجموع ، مما قد يحمل دلالة على شدة سطوة الحنين إلى الماضي ، الماضي البعيد عن مطرح0
ووصف البحر في القصة فيه دلالة خاصة عندما يكون المرء في مطرح ، وهي دلالة تختلف عن دلالته عندما يكون المرء في القرية ، وكأنَّ البحر هنا غيره هناك 0ففي مطرح يتخذ البحر الصورة الآتية:
" فيتقاذف قدامه الزبد الذي يحمل الصرخات الآتية من الأعماق0 يرقب بلهفة موج البحر والامتداد0
تتناثر الأسماك بكثرة على الشاطئ كجثث جنود خلفوا إثر معركة بحرية طاحنة "(31)0
وهي صورة تزكم أنف القارئ بقوة روائح الخوف والغموض والموت فيها ، لكنها سرعان ما تتحول إلى صورة مغايرة عندما يكون الحديث عن البحر في القرية:
" تفعم أنفه رائحة البحر، حين يكون عائداً على حيزوم قارب أبيه ، يسمع للصيادين القادمين بنكهة الانتشـاء بعد يوم ثري0 تتجاذب الأنوف روائح السمك والغليون0 يغني أبوه ، فيأتي صوته رقراقاً ينساب بأعذوبة مع موسيقى الموج0 ومن خلفه تسمع المرددين بأصواتهم المالحة، فيأتي الغناء الرطب عذباَ كأوركسترا متكاملة 0 كثيراً ما يداهم فجر القرية الطري دقات الطبول العائدة مع أناشيد الصيادين الريانة" ( 32)0
هذا التباين في وصف البحر يكشف عن عدم قدرة على الإحساس بالانتماء إلى مطرح، فثمة دوماً حنين إلى الماضي، وإلى القرية0 وهذا ما يولّد الإحساس الطاغي بالتيه:
" أين أنت؟ كلهم يسمعون صوتك القادم من السماء ، وأنا تائه أبحث عنك في الممرات الحالكة وفوق الهضاب"( 33)0
إنَّ هذا الإحساس بالتيه يتكرر ذكره في " بوابات المدينة " أيضاً0 فتحت وقع مطارق الواقع وضغط الظروف القاهرة ، صارت مطرح مقرونة بالتيه وفقدان الذاكرة :
" مطرح بروائح البهارات والسّمّاكين  ، بالتيه ، بفقدان الذاكرة ، برائحة البحر العفنة تسكن  في خياشيم أسماك القرية الفارة من مصيدة الموت إلى حافة الغموض"( 34)0
ثمة إذن هوة عظيمة بين مطرح والقرية تحول دون الإحساس بالانتماء إلى الأولى ، فمطرح تتلخص صورتها في الضياع والتنكر للذاكرة المكانية والركون إلى عفونة الغموض المسيطر ،والقرية تعني عكس هذا كله 0لكن يبدو أنَّ القاص عزّ عليه أن يبقى بطله أسير الضياع مدة طويلة، فتدخّل في القصة منهياً المشكلة كلها بإجراء مصالحة لا تخلو من تعّمل وتكلّف بين مطرح والقرية :
" حملت بندقية أبي إلى قريتي 0 علقتها على وتد الزمان ونمت0 فهنا في قريتي الصغيرة تولد بندر جديدة فيها كل شيء : الهاتف والثلاجة وآخر موديلات السيارات ، وهنا أرتدي نفس كمة المطرحي ، وأتغدى بطبق من السمك الطازج مثله" (35)0
هذه المصالحة وإن كانت سائغة وحقيقية بالنظر إلى الواقع الخارجي بعد دخول مظاهر الحياة المدنية في القرى والمناطق الريفية بالسلطنة ، تبدو مقحمة على بناء القصة ، وغير متلائمة مطلقاً مع خط سيرها الطبيعي الذي كان يعج بالآلام والصعوبات التي واجهها خلفان وأسرته في حياتهم المريرة بين القرية ومطرح0 وإذا بالابن – بعد موت والده مباشرة – يعود إلى القرية فرحاً مسروراً بمظاهر الحياة الجديدة التي أخذت تسري إلى القرية !
وتتخذ قضية الانتماء وجهاً آخر مختلفاً في " يوم صمت في مطرح" ، فمعيشة السارد الطويلة الهانئة في مطرح رسخت لديه شعوراً بالانتماء إليها أقوى من شعوره بالانتماء إلى نزوى التي أتى منها أصلاً ؛ لذا لم يكن غريباً أن يفضل مطرح على كل بقاع كوكب الأرض كله:
" إنَّ الناس ، ناس العالم كله ، من الهند ، من السند ، من نيويورك المخيفة ، ومن لندن الواسعة ، كلهم يأتون إلى مطرح ليشموا لساعات بسيطة رائحة الهدوء الفريد ويتسكعوا بحرية حلوة ، وأمان لن يجدوه أبداً في كوكب الأرض0 إنَّ أبي الذي زارني قبل ليلتين لم يفلح في محاولته الطويلة في إقناعي بالنكوص معه إلى نزوى ، أخبرته بأنني مسكون بمطرح ، وأن مطرح الحلوة في دمي "(36)0

4- الارتباط بالزمن :
يرتبط المكان بالزمان ارتباطـاً وثيقاً يستعصي على كـل محاولات الفصل بينهما ؛ لأن " علاقات الزمان تتكشف في المكان ، والمكان يُدرك ويقاس بالزمان 0هذا التقاطع بين الأنساق ، وهذا الامتزاج بين العلاقات هما اللذان يميزان الزمكان الفني " (37)0 وإذا كان هذا الارتباط يعم كل الأمكنة ، فإنه يكتسب خصوصية خاصة وبروزاً مميزاً عندما يكون الحديث عن المدينة ؛ لأنَّ" من أبرز ما يميز المدينة الإحساس فيها بعامل الزمن ، وانعكاس هذا العامل على الحياة نفسها وعلى علاقات الناس بعضهم ببعض"( 38)0
إنَّ عنوان القصة الأولى " قناديل مطرح " ليكشف عن ارتباط واضح لمدينة مطرح بالزمان؛ ذلك أنَّ " القناديل" إنما تُستعمل في الليل ، والليل زمان، وقد أضيف هذا الزمان إلى مطرح ليجعل ذهن القارئ مفتوحاً لكل الاحتمالات التي يحتملها هذا الارتباط الوثيق بين الزمان والمكان 0 ويشعر قارئ القصة بأنَّ مطرح ليست مكاناً وحسب ، فهي أيضاً زمان فاصل ابتدأ فيه واقع الضياع والقلق بعد ماضٍ في القرية هادئ مطمئن0
وعنوان القصة الثانية " يوم صمت في مطرح " أوضح دلالةً على الارتباط الزمكاني ؛ فمطرح المكان حلّ فيها هذا الزمان الخاص ، هذا اليوم الغريب ، يوم الصمت المطبق على الكل 0وقد حار السارد في تفسيره دون أن يتمكن من حل اللغز إلى نهاية القصة0
أما القصة الأخيرة" بوابات المدينة" فهي أيضاً تربط مطرح ربطاً وثيقاً بالزمان:
" هذه مطرح إذن ، وهذا كوتها 0 هنا يحرث الجميع تعاسة الزمان ، وهناك أبي يخفق قلبه مع خفقان العلم الأحمر في الكوت0 وهذا ليل مطرح يفح كأفعوان "(39)0
ليس من المجازفة إذن الذهاب إلى أنَّ " البوابات " في عنوان القصة ليست بوابات عادية يقتصر الهدف من وجودها على الانتقال من المدينة وإليها، فلها أيضاً أبعادها الرمزية التي تجعلها صالحة لأن يُنتقل من خلالها من زمان إلى زمان آخر مختلف تماماً0

الهوامش:
(1) يمكن الرجوع في هذا الصدد ، على سبيل المثال ، إلى :
-    عز الدين إسماعيل : الشعـر العربي المعاصر ( قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية ) ، دار الثقافة ، بيروت 1966م ،ص325- 349 0
-    إحسان عباس : اتجاهات الشعر العربي المعاصر ، ط2 ، دار الشروق ، عمّان ، 1992م ، ص89- 108 0
-    شاكر النابلسي : جماليات المكان في الرواية العربية ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1994م ، ص30- 38 0

(2) مدينة ساحلية من أهم مدن محافظة " مسقط " ، لا تبعد عن مسقط القديمة سوى بضعة كيلومترات ، وتعرف بمينائها (ميناء السلطان قابوس ) وبأسواقها التراثية القديمة 0
(3) وهي إحدى قصص مجموعته : "النذير " ، المطابع العالمية ، روي 1992م 0
(4) وهي في مجموعته : "حبس النورس" ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1996م 0
(5) وهي قصة من قصص مجموعته التي تحمل الاسم ذاته ، مطابع دار جريدة عمان ، مسقط 1993م0
(6) شاكر النابلسي: النهايات المفتوحة( دراسة نقدية في فن أنطوان تشيكوف القصصي) ، ط2 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1985م ، ص114 0
(7) يونس الأخزمي : النذير ، ص61- 62 0
(8) حميد لحمداني : بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي ، ط2 ، المركز الثقافي العربي ، بيروت والدار البيضاء 1993م ، ص65 0
(9) يونس الأخزمي : حبس النورس ، ص11 0
(10) محمد بن سيف الرحبي : بوابات المدينة ، ص32 0
(11) المصدر نفسه ، ص34 0
(12) غالب هلسا : المكان الرواية العربية ، دار ابن هانئ ، دمشق 1989م ، ص11 0
(13) حميد لحمداني : بنية النص السردي ، ص63 0
(14) يونس الأخزمي : النذير ، ص59 0
(15) المصدر نفسه ، ص62- 63 0
(16) يونس الأخزمي : حبس النورس ، ص10 0
(17) المصدر نفسه ، ص18 0
(18) محمد الرحبي : بوابات المدينة ، ص28 0
(19) المصدر نفسه ، ص33 0
(20) رولان بورنوف وريال أوئيليه : عالم الرواية ، ترجمة نهاد التكـرلي ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 1991م ص98 0
(21) حميد لحمداني : بنية النص السردي ، ص70 0
(22) يونس الأخزمي : النذير ، ص 59 0
(23) المصدر نفسه ، ص61 0
(24) محمد الرحبي : بوابات المدينة ، ص36 0 و "الحواجيل " أراد بها القيود 0
(25) المصدر نفسه ، ص35 0
(26) المصدر نفسه ، ص37 0
(27) راجـع مناقشة الدكتور إحسان عباس لهـذا الموضوع في كتابه "  اتجاهات الشعـر العربي المعاصر" ، ص89 0
(28) يونس الأخزمي : حبس النورس ، ص13-14 0
(29) المصدر نفسه ، ص18 0
(30) يونس الأخزمي : النذير ، ص59 0
(31) المصدر نفسه ، ص59 0
(32) المصدر نفسه ، ص60 0
(33) المصدر نفسه ، ص61 0
(34) محمد الرحبي : بوابات المدينة ، ص33 0
(35) المصدر نفسه ، ص38 0
(36) يونس الأخزمي : حبس النورس ، ص13-14 0
(37) ميخائيل باختين : أشكال الزمان والمكان في الرواية ، ترجمة يوسف حلاق ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق 1990م ، ص6 0
(38) عز الدين إسماعيل : الشعر العربي المعاصر ، ص331 0
(39) محمد الرحبي : بوابات المدينة ، ص35 0

المصادر والمراجع
1- الأخزمي ، يونس : النذير ، المطابع العالمية ، روي 1992م 0
2-الأخزمي ، يونس:حبس النورس،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت1996م 0
3- إسماعيل ، عزالدين : الشعر العربي المعاصر ( قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية) ، دار الثقافة ، بيروت 1966م 0
4- باختين ، ميخائيل : أشكال الزمان والمكان في الرواية ، ترجمة يوسف حلاق ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق 1990م 0
5- بورنوف ، رولان وريال أوئيليه : عالم الرواية ، ترجمة نهاد التكرلي ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 1991م 0
6- الرحبي،  محمد بن سيف : بوابات المدينة ،مطابع دار جريدة عمان،مسقط 1993م 0
7- عباس ، إحسان : اتجاهات الشعر المعاصر ، ط2 ، دار الشروق ، عمّان 1992م 0
8- لحمداني ، حميد : بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي ، ط2 ، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء 1993م 0
9- النابلسي، شاكر:النهايات المفتوحة (دراسة نقدية في فن أنطوان تشيكوف القصصي) ، ط2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1985م 0
10- النابلسي ، شاكر : جماليات المكان في الرواية العربية ، المؤسسة العربية للدراسات    
    والنشر ، بيروت 1994م 0
11- هلسا ، غالب : المكان في الرواية العربية ، دار ابن هانئ ، دمشق 1989م 0

تعليق عبر الفيس بوك