النّظام أساس النّجاح في الحياة

أ.د/ محمد بن قاسم ناصر بوحجام - الجزائر
رئيس جمعيّة التّراث – غرداية – الجزائر

 

 يحتاج المرء  في مسيرته العامّة إلى  تنظيم شؤون حياته، وتَيُّين طرق البناء والتّوجيه، والتّثقيف والتّوعيّة فيها.. هي معارك كبيرة يجب أن يخوضها ويقتحمها ويتبارى فيها ويتنافس..؛ لأنّ الحياة جهاد ونضال وصراع مع ما يقف حجر عثرة في طريق الحصول  على المبتغى والمأمول والمخطّط له، قال الشّيخ إبراهيم أبو اليقظان:
إنّـــــــما الدّنيا جهادٌ، مَنْ ينمْ
يومَهُ  داستْهُ   أقدامُ   الرّزايا
ولِنَيْلِ  الـحقِّ  أدْوارٌ   غَدَتْ
خَطواتٍ، حازَها جُلُّ  البرايَا

هذه الخطوات وهذه المراحل أو هذه الأدوار، تضبطها قواعد، وتنتظمها ضوابط، تسيّجها وتسوّرها مقوّمات، هي: العلم والمعرفة، والدراية والكفاية والعناية والعزم والتّخطيط والتّنظيم..هذه القواعد هي العمل التّأسيسي والتنظيمي للسّير في الحياة، وهي تندرج  في سياق  البناء الحضاري، نذكر بعضها قيما يأتي:

أولا - تنظيم العمل بما يضمن تلبية مطالب الدّنيا وحقوق الأخرى، قال الله :  وابْتَغِ فيمًا آتاكَ اللهُ الدّار الآخرةَ ولا تنسَ نصيبك من الدّنيا...  (القصص/ 77)..قال الرّسول : " ليس خيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، وإنّما خيركم من أخذ من هذه وهذه" (أخرجه ابن عساكر..) يقول الشّيخ  إبراهيم بيّوض: "...فالدّنيا مطيّة الآخرة...فلا يخدم الآخرة إلاّ من خدم الدّنيا، ولا يخدم الدّنيا إلاّ من خدم الآخرة...والدّنيا والاخرة لا تتزاحمان، إلاّ عند البلداء السّخفاء.." (المجتمع المسجدي، ص:129، 130) .. إنّ تنظيم شؤون الحياة بوعي ودراية وتفكير سديد وتدبير محكم.. هو ما يكفل السّير في الحياة بخطى سليمة ونسق صحيح..

ثانيا - العلم الصّحيح، الذي هو الأساس الأوّل في هذا البناء، وهو للإسلام الدّعامة الأولى، وهو مطلب كلّ زمان ومكان، وواجب على كلّ فرد، في كلّ وقت وفي كلّ مراحل عمره. في هذا يقول المرحوم الشّيخ عبد الرّحمن بن عمر بكلّي: "من كان أعلم كان أغنم، ومن كان أفهم كان أسلم.".  تبعًا لهذا يجب الاهتمام بالتّعليم، الذي هو عمليّة إعداد الفرد ليخوض معترك الحياة بقوّة وثقة في النّفس.
يجب الاعتناء بتوفير أسباب نشره وتعميمه على كلّ طبقات المجتمع، وتطويره بما يستجيب لمستجّدات كلّ زمان، ويلبّي حاجات كلّ ميدان، وينسجم مع المبادئ والأصول والأركان، ويحقّق التّواصل مع مكوّنات العصر الذي يوجد فيه الإنسان. بهذه المواصفات ينجح  القائمون على مراكز التّربيّة والتّعليم – بكلّ أشكالها – في النّجاح بالعلم في بلوغ الأهداف المنشودة.

ثالثا - النّظام المحكم في كلّ الشّؤون والأمور، وفي جميع الأصعدة والمستويات، وفي كلّ أنواع العلاقات والتّحرّكات. ففي النّظام حياة، وفيه الفوز والنّجاح والظّفر بالمطلوب والغايات. قال أحمد شوقي عن الأوروبيّين:
وما   فَازُوا   بِـمُعْجِزَةٍ    عَلَيْنَــــــا
ولَكِنْ  في   أُمورهمُ   نِظـــــــــــامُ

إنَّ إسلامنا قبل كلّ شيء نظام محكم، فلنأخذ منه قواعد العمل، ولنطبّقها أحسن تطبيق لننجح ونفوز ونفلح،  قبل أن نأخذ من غيرنا ما ننظّم به حياتنا وشؤوننا وعلاقاتنا...أضيف قائلاً:
يعيش   الـمرءُ  أصْلا   بِالنِّظــام
يَشُقُّ  بـــــه  طريقهَ  في  قَـــوامِ
فَيَهدِيهِ السّـديــدَ مــن  الفِـعــالِ
فَيمْضي مُستَريـحا في انْسِجَامِ
ويُعْطيهِ  السَّلامة  في الـمسيرِ
وَفـي كُـلِّ  قُـعــودٍ أَوْ قِـيـــــامِ

رابعا - حسن التّخطيط: هذا التّخطيط ينطلق من منظومة فكريّة، تتضمّن مضمونًا يعكس مذهبًا فكريًّا معيّنًا، ومبادئ محدّدة في العمل، وأصولاً مقنّنة في النّشاط..توجّه المشروعات المقترحة بكلّ وضوح ودراية.. هذا المنهج في التّخطيط يساعد على ضبطِ المسار، والتّركيز على ما هو مطلوب، وتحديد الأولويّات، ويرشد إلى الطّرق الصّحيحة والسّريعة في التّنفيذ، ويهدي إلى الأقوم من الأعمال.. ويقتصد في الجهد ، ويعطي فرصة الرّؤية الشّاملة في شؤون الحياة،..هذه القاعدة هي من هدي النّظام ووحيه وتوجيهه..

خامسا - حبّ الجمال والتّعامل مع الأشياء بمنظور الجمال أو من منطلق الجمال أو من مفهوم الجمال.. فإذا كان الجمال هو عمل متقن، فإنّ الذي يؤمن بهذا ويعيه حقّ الوعي.. سيحرص على توفير الإتقان في كلّ ما يأتيه: قولاً وفعلاً. يتقن تطبيق دينه؛ لأنّ الجمال يطلب ذلك. يحسن في أخلاقه؛ لأنّ الجمال يقتضي ذلك، علاقاته مع غيره تكون جيّدة طيّبة، لأنّ الجمال يدفعه إلى ذلك، يحبّ الخير لغيره، ويكره إيذاءَه أو الإضرار به؛ لأنّ الجمال يحثّه على ذلك، يمتنع عن التّقصير في أداء الواجبات، ويكفّ عن اقتراف الرّذائل والموبقات وإتيان المنكرات..؛ لأنّ الجمال لا يرضى بذلك. هكذا فإنّ حبّ الفردِ الجمالَ وجعلَه قاعدة ينطلق منها في التّحرّك والقول يسهم في البناء الحضاري للكيان والأركان والإنسان.

سادسا - التّحلّي بالذّوق السّليم. حُبُّ الجمال وتملّيه والانطباع به..كلّ ذلك يكوّن في الإنسان حاسّة ذوقيّة مرهفة، تتجاوب مع المناظر الجميلة، وتعجب بالمشاهد الرّائعة، وتُشدُّ إلى المواقف النّبيلة.. وتنفر من المناظر القبيحة، وتهرب من المشاهد السّمجة، وتكره المواقف المخزيّة..

هذه الطّبيعة في الإنسان السّويّ تجعل منه فردًا صالحًا يتقدّم إلى مواطن الصّلاح والبناء والتّشييد والبدار.. ويبتعد عن مواقع الفساد والهدم والدّمار والخسار. دليله في التّفريق بين الصّلاح والفساد، وبين الطّيّب والخبيث، وبين البناء والهدم، وبين المفيد وغير المفيد...دليلُه في كلّ هذا هو ذوقه السّليم، الذي يمنحه إحساسًا مرهفًا، يدرك به الفروق بين كلّ ما ذكرنا..وبذلك يضيف قاعدة أخرى في قواعد البناء الحضاري.

هذه بعض القواعد التي تسهم في البناء الحضاري، وليست كلّها. وما أحوج الفرد  إلى أن ينظّم حياته، ويقيمها على قواعد وأسس وأصول؛ حتّى يتمكّن من إيجاد السّبل الكفيلة بالوصول إلى أهدافه ومقاصده؛ من تربية نفسه، وبناء شخصيّته وإعدادها.. بقوّة وبسرعة.. هذا التنظيم بهذه القواعد.. يعينه على توفير أسباب اكتساب مهارات لتحدّي ما يعترض سبيله في تنفيذ مخطّطاته ومشروعاته..فالحياة نظام وعلم صحيح وتخطيط محكم، ومنهجيّة سليمة، ونظرة شاملة، وتفكير حضاري.. يقود كلَّ ذلك ويسيّره فكرٌ متزنٌ أصيلٌ.. وهذا لن يحصل إلاّ بالتّنظيم الصّحيح لمسيرة الحياة..

تعليق عبر الفيس بوك