الصَّفُّ في الإسلام.. ثُنائيّة الشَّكل والمضمون

محمد عبد العظيم العجمي - مصر


قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} سورة الصف (الآية: 4).ذكر الطبرى فى تفسير هذا القول: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحبّ أن يختلف بنيانه، كذلك تبارك وتعالى لا يحب أن يختلف أمره، وإن الله وصف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله فإنه عصمة لمن أخذ به.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} قال: والذين صدّقوا قولهم بأعمالهم هؤلاء؛ قال: وهؤلاء لم يصدّقوا قولهم بالأعمال لما خرج النبيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم - نكصوا عنه وتخلفوا، وكان بعض أهل العلم يقول: إنما قال الله:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} ليدل على أن القتال راجلا أحبَّ إليه من القتال فارسًا، لأن الفرسان لا يصطفون، وإنما تصطفّ الرجالة.  
والتشبيه للصف هنا بالبنيان المرصوص فيه دلالات كثيرة، نستطيع أن نلخص منها ما يلى:
الدلالة الأولى: دلالة الشكل وهي وحدة وقوة الجمع، وهى مطلوبة حتى وإن ملأ الإيمان القلوب، فالفائدة هنا هى فائدة التربية الجمعيّة، بالإضافة إلى تهيئة القلوب، ويعنى أنه حتى مع وجود الإيمان ومخالطته القلوب، فلابد أن هناك أسبابًا جالبةٌ للنصر، مهيئةٌ له ومقدمة إليه، ليست فقط فى مضمون الإيمان وإنما فى التهيئة العسكرية (العدة والعتاد)، والقوة البدنيّة والنفسيّة التى ذكرت فى قوله {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}. (سورة الأنفال: الآية 60).
الدلالة الثانية: إظهار القوة والقدرة وإرهاب العدو المستعدى على المؤمنين بالقتال، كما قال - صلى الله عليه وسلم - وهو يدخل مكة فى عمرة القضاء: "رحم الله امرءًا أراهم اليوم من نفسه قوة"، كما أمر الصحابة أن يرملوا فى الأشواط الأولى ويظهروا الكتف الأيمن (إظهارا للقوة)، ولم ينكر على عبد الله بن رواحة قوله بين يديه:
خلـوا بني الكفـار عـن سبيله
                            خلوا فكل الخير في رسوله
يـا رب إنـي مـؤمــن بـقـيـله
                            أعـرف حـق الله في قبـوله
نحـن قتـلـناكـم علـى تـأويـله
                            كمـا قـتلـناكم علـى تنـزيلـه
ضربا يزيل الهام عن مقيله
                            ويذهـل الخـليل عـن خليـله
الدلالة الثالثة: البنيان المرصوص، لأن تماسك البنيان فقط ليس من اصطفاف لبناته، وإنما أيضا يشمل هذا الرابط الذى يشد البنيان بعضه ببعض، وهذا الرابط هو علاقات الأخوّة الإيمانية، والتكافل الاجتماعى، والتعاون على البر والتقوى والنهي عن الإثم والعدوان، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكل هاتيك المعانى التى ترسخ لها وتصنعها وتربيها هذه  العبادة الجماعية، على رأسها (الصلاة والصيام والزكاة والحج، و..)  والتى لو تفرَّغت من مضامينها ولم يكتمل المعنى (التربويّ) المتضمن فيها مع المعنى التعبدى والتشريعى أصبحت والعدم سواء.
الدلالة الرابعة: أن الاجتماع على هذه الصورة (الصفّ)  يستوجب محبة الله تعالى، وما يستوجب محبته لابد أن يستجلب نصره، فما وجبت المحبة هنا إلا لامتثال الأمر واجتناب النهي، ولا يكون نصر بدون ذلك، وتلكم هى أسباب النصر الحقيقية، ومعها أخذ العدة والعتاد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكمُمْ تُفْلِحُونَ (45( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}(سورة الأنفال). فالثبات مع كثرة الذكر، المقترن بطاعة الله وطاعة رسوله وعدم التنازع كل هذا من عوامل إحراز النصر، وهو عينُه التأكيد على وحدة الصفّ.
الروح التربوية للعبادات:
وإذا توقفنا قليلا عند المعنى (التربويّ) الضمنيّ للعبادات بالإضافة لما فيها من الجانب  (التعبديّ) ، فإنها جميعا لا تخلو من مضمون ترسيخ وتثبيت روح الجماعة، وتغليبها على الروح الفردية.. والإسلام وإن كان يحفظ للفرد حريته وحقوقه الشخصية، إلا أنه يقدم عليها مصلحة المجتمع ويجعلها هى الأساس فى التربية والتشريع ويؤكد عليها  فى كل خطاباته التعبدية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، ولا نجد خطابا فى القرآن يختص بالمؤمن لذاته أبدا، ولا تكليفا ولا تشريعا للمؤمن خاصة، إنما هو تشريع للأمة جميعها الذين يشملهم الأمر والنهي، والترغيب والترهيب، والجزاء والحساب.. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)} (سورة النور)  {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ } (سورة البقرة) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) (سورة البقرة)، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا(42) (سورة الأحزاب)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (سورة النساء).
فإذا كانت هذه حال المجتمع فى وقت (السلم) والتعايش، وهذه روح العبادة والمعاملة، فلابد أن يكون ذلك حاله فى وقت الشدة، أو الحرب، أو الكارثة.. هي الروح نفسها، فـ" الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ)، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: (سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ حَسْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ). رواه مسلم.
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ أَنْظُرُ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ. قَالَ: فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَكَلَّمُ بِهِ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ)، وعَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ,،،..)
إنّ من سمات المجتمع الإسلامى: إثراء الروح الجماعية المتآخية المتعاونة المتآزرة فيما بينها، فلا يكمل إيمان هذا الذى يبيت شبعانا ويبيت جاره طاويا، والذى لا يأمن جاره بوائقه، والذى يتعالى على إخوانه فيغمطهم، ويبطر حقوقهم، ويعاتب ربه عبده بين يديه حين يمرض أخوه المسلم فلا يعوده، ويقول (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟)، فأى جائزة هذه التى فاتته من تلك الزيارة، وأي أجرهذا الذى أعده للزائر.. ويدخل رجل الجنة فى غصن شوك أزاحه عن طريق الناس، وينظرالمتشاحنين فلا ترفع أعمالهما حتى يصطلحا، ويجعل الخيرية لمن يبدأ فيهما بالسلام، بل ويتحسس دواخل الفقراء الذين أظهروا التعفف من السؤال حتى نعطيهم من أموالنا، ويستجهل من لا يتوسم فيهم حقيفة الحال لهذه العفة التى يظهرونها فلا يعرف حقيقتهم حتى وإن بدا عليهم الغنى، فهم "لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ "  ، ولا يعنى ذلك أن يسقطهم المجتمع من حسبانه بسبب ما يبدو عليهم..
الفهم الأول:
وقد فهم الرعيل الأول القرآن حينما نزل غضا نديا وبادروا إلى أمره واجتناب نهيه، فلما أيقنوا وفهموا وعملوا، دانت لهم الدنيا فى نصف قرن من الزمان، وأصغروا امبراطوريتى الشرق والغرب، وكانت لهم قيادة الحياة وريادتها حتى حفظوا الحرث والنسل  وأمن أهل الأديان على أنفسهم وأموالهم ودينهم وعبادتهم، وما زال القرآن يعلمهم ويربيهم والنبى بين ظهرانيهم، حتى بالهزيمة والفرار فى غزوة (أُحد) و(حُنين)، ليعلمهم أن النصر له أسبابه وأدواته التى لا يغنى عنها وجود النبى (صلى الله عليه وسلم) فيهم، وعلى رأس هذه الأسباب السمع والطاعة والثبات والجماعة، وعدم تغليب الروح الفردية والأثرة، فهذى التى تودى بالقوة وتذهب ريحها.
إن (للصفّ) فى الإسلام فلسفة خاصة، لاتكاد عقيدة من العقائد تقوم بمعناها، فهو تربية فردية جماعية عقدية إيمانية، تحرص على الشكل والجوهر، والعلم والعمل، والجهاد والتعايش، والسلم والحرب.. فالمجتمع الذى يستمسك ببعضه حتى يصير كالبنيان، من الذى يستيطيع هدمه أو استظهاره، أو يصنع له نقبا؟، إنه يجعل الكل كالواحد، ويقرِّب النفوس ويوحد الكلمة، ويستلهم هذه الروح من توحيد الشعائر واجتماعها واصطفافها، فكيف يتفرَّق مجتمع روح شعائره ومظهرها الجماعة والاصطفاف والتكافل والتكامل، ومن شذَّ عن جماعته فقد شذَّ فى النار.. لكن استفراغ النصوص من مضامينها ومعانيها لا ينتظر منه إلا أن نكون: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)}(الآية: 5 سورة الجمعة)، أو:  
كالعيس فى البيداء يقتلها الظمأ *** والماء فوق ظهورها محمول

تعليق عبر الفيس بوك