وجها لوجه

...
...
...

 د/غالية آل سعيد وعبد الرزاق الربيعي (2)


نشرت د/غالية آل سعيد في المجلات الأدبية العربية العديد من القصص القصيرة مثل (من المطار) التي نشرت لاحقا ضمن خمسين قصة قصيرة لكتّاب عرب في كتاب العربي عام 2007 – 2008 م. وكذلك ساهمت في كتاب حول العرب في الشتات، تحرير زاهية اسماعيل صالحي وإيان ريتشارد نيوتون، ومشاركات أخرى أبرزها مشاركتها في مؤتمر الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط في ليدز يوليو 2008، وكان موضوعه حول وضع خارطة للشتات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد درس أعمالها العديد من النقاد العمانيين والعرب، واختارت الباحثة وفاء بنت بدر بن سليمان الشقصي روايتيها (سنين مبعثرة)، و(جنون اليأس) موضوعا لنيل درجة الماجستير في اللغة العربية، وآدابها في تخصص النقد الأدبي بجامعة نزوى، وحملت رسالتها عنوان "الشخصية في روايتي غالية آل سعيد "سنين مبعثرة" و"جنون اليأس": دراسة وصفية تحليلية"، وقدّمت الدكتورة عائشة الدرمكي ورقة تناولت فيها الخطاب، وتبدلاته، والفن، وحدوده، ومفهوم الذات في علاقتها بالهوية السردية، وذلك في ملتقى الشارقة الثالث عشر للسرد لدائرة الثقافة، والإعلام في الشارقة. إلى جانب العديد من الدراسات النقديّة، التي كتبت عن أعمالها في الصحف، والمجلّات العربيّة.
وقد انعكست السنوات الطويلة التي عاشتها خارج عمان في المملكة المتحدة، للدراسة في مدارسها، وجامعاتها التي توّجت بحصولها على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة ووريك، على أعمالها الروائية، فناقشت تجاذبات العلاقة الحضاريّة بين الشرق، والغرب من خلال العلاقات الإنسانيّة، ولم تتوقّف أنشطة د. غالية على الكتابة، فإلى جانب ذلك تمارس نشاطات عدة داخل عمان وخارجها كونها عضوا في المعهد الملكي للدراسات الدولية في جتام هاوس بلندن، وشاركت في عدّة مؤتمرات أقيمت في مدرسة لندن للدراسات الشرقية، والأفريقية، وجامعة ليدز، نظّمتها الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط، وقامت بتأسيس (متحف غالية للفنون الحديثة) في مدينة (مطرح) الكائن بمحاذاة قلعتها المعروفة، ويعنى بإقامة المعارض الفنية، والحلقات العلمية، ويهتمّ بتراث الإنسان العماني المرتبط ببيئته، ومجتمعه المتذوق.
في هذا الحوار، فتحت الكاتبة غالية الحاصلة على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة ووريك البريطانيّة،  ذاكرتها، وقلبها، لنا، علما بأنها تقبع بعيدة كلّ البعد عن وسائل الإعلام، تاركة كل المساحة لشخوصها، للحديث عن حيواتهم على صفحات رواياتها الخمس، ويكفي أنّ هذا الحوار هو أوّل حوار للكاتبة في حياتها، رغم أن علاقتها بالكتابة الروائية تعود إلى حوالي  عقدين من السنوات، بل لم تحاول  أيّة وسيلة إعلام اقتحام عالمها، سوى مجلة نسوية قابلتها بالاعتذار، لذا حاولنا أن نتوسع بالحديث في هذه المساحة محاولين الاقتراب من عالمها الروائي، وتجربتها في الكتابة.
س:،، ماذا عن مظاهر الحداثة التي نراها اليوم، متى ظهرت؟
ج:؛؛؛ قبل السبعينيات كان هناك القليل من مظاهر الحداثة التي نعرفها، ونتمتع بها اليوم في عمان. الحداثة أتت بوصول صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد إلى عرش الحكم في شهر يوليو 1970. قبل ذلك كان عدد السيارات في عمان قليل، والمسافة التي تقطع بين مسقط، والمدن الاخرى طويلة، مثلا المسافة في السيارة من مسقط الى السيب كانت أكثر من ساعتين، أما اليوم ربما تستغرق أقل من عشرين دقيقة. الصعوبة التي واجهها الناس في ذلك الوقت تفسّر لنا الأعداد الكبيرة من الشباب الذين سافروا الى الدول المجاورة، الى السعودية، والكويت، والبحرين، وقطر، للعمل وطلب الرزق.
في تلك الحقبة من الزمان مرّت عمان بظروف اقتصادية، وعسكرية صعبة للغاية. هناك حرب داخلية، والبلد على وشك الانقسام الى نصفين. وتوجب على عمان رعاية مستعمرتها في المحيط الافريقي، في زنجبار التي ظلت خاضعة للحكم، والسيادة العمانية الى عهد قريب، على وجه التحديد حتى العام 1964. في تلك السنة تفكك حكم عمان في زنجبار، كما تفككت الامبراطوريات الأخرى في العالم، أهمها الإمبراطورية البريطانية، حينها خرجت الشعوب تطالب بالحكم، والسيادة الذاتية على أراضيها، وبالحرية، والعدالة، والمساواة. الذي يجب الإشارة إليه هنا، تعتبر عمان الدولة الوحيدة من بين الدول العربية في التاريخ العربي المعاصر التي كان لديها مستعمرة، ونفوذ خارجي له الفضل في نقل الحضارة، والثقافة العربية، والدين الى آفاق بعيدة، وظل الموروث العماني بارزا في زنجبار حتى يومنا هذا، شاهدا على جهد قام به العمانيون.
وبعد زوال السيادة العمانية في زنجبار، وقعت أحداث أسمّيها حقبة النكبة التي لا تختلف عن أي نكبة حلّت بأي شعب آخر في العالم. في زنجبار حلّت بالعمانيين نكبة مكتملة الفصول، وفي نظري وجدت القليل من التحليل أكاديميا، ولم يسلط عليها الضوء، وصفا، وتفسيرا، وتقييما. ذلك كان واقعا مأساويّا للعمانيين، فروا بأرواحهم خوفا من المجازر، وهربوا على البواخر لاجئين، صغارا وكبارا، قطعوا البحار حتى وصلوا الى عمان. سكن اللاجئون في مسقط، وفي المدن الأخرى مع أسر عمانية، تلك النكبة جلبت الشتات للأسر، ستجد الأيتام، والأرامل، وفصلت الأسر عن بعضها البعض. وكما قلت، للأسف الشديد كتب القليل عن تلك الحقبة الدامية من تاريخ عمان، وما حصل في زنجبار يحتاج للمزيد من البحوث، والدراسات الموضوعية، والمنصفة.
س:،،، في تلك المرحلة، سنين ما قبل السبعينيات، عانى العمانيّون من شظف العيش، ما هي الأسباب الكامنة خلف ذلك؟
ج:؛؛؛ شظف المعيشة في تلك السنوات أسبابه عدّة، من أهمها، وربما السبب الأكبر مرور العالم بالحرب العالمية الثانية. إذ خرج العالم من هذا الحرب منهكا معنويا، واقتصاديا، وواجهت معظم دول العالم الارتباك الاقتصادي، والتجاري، والصناعي، وتأزّم في المواصلات. هذه العوامل الخارجية والداخلية التي مرّ بها العالم أثرت على عمان، وجلبت للبلاد التعثر في مجالات كثيرة؛ وفي تلك الحقبة من الزمان البترول لم يستخرج بعد في عمان.
س:،،، وما هي الحلول التي كانت متاحة للخروج من تلك الأزمة؟
ج:؛؛؛ الضغوطات الاقتصادية الملحّة التي مرّت بها عمان في الستينيات من القرن العشرين أجبرت الأسر العمانية تتسارع لإرسال أبنائها للعمل خارج البلاد. ما أن يبلغ الابن سن السادسة عشر، تسارع الأسرة جاهدة ارساله إلى الدول المجاورة ليعين الأسرة في متطلبات المعيشة، ولينال قسطا من التعليم الذي كان شحيحا في سائر بلدان، ومدن عمان. وسفر الشباب إلى خارج عمان لم يكن هيّنا على الأسر من نواح عدّة، أهمها المتطلبات المالية الضرورية لإجراءات السفر، والحصول على تأشيرة سفر من الحكومة العمانية للخروج. كانت الأسر تستدين المال، أو تلجأ إلى بيع مصاغ نسائها لتوفر المطلوب من المال لهذه الأسفار. في ذاك الزمان مصاغ المرأة العمانية كان خير معين للأسر، له قيمة كبيرة على الرغم من أنه مصنوع من الفضة، ونادرا ما يكون من الذهب لقلة تواجده وندرته في تلك الأيام. الحلي يصنع يدويا، وباحتراف واتقان، واليوم يعد من أجود، وأجمل، وأفضل أنواع الحلي التقليدية ليس فقط من بين الحلي العربية والشرقية بل بين حلي العالم أجمع. فور وصول الشباب الى الدول المجاورة ينخرطون في العمل، والدراسة الليلية في فصول محو الأمية، ويرسلون الذي كسبوه من المال مع العائدين من تلك الدول الى عمان.
س:،،، هناك قصص، وأحداث كثيرة من تلك الحقبة في عمان منطبعة في مخيلة الجميع، وأنت منهم، هلّا تتذكّرين بعض تلك الأحداث؟
ج:؛؛؛ لهؤلاء المهاجرين من الشباب، وتجاربهم في السفر والهجرة، حكايات. كانت أخبارهم تصل ذويهم عن طريق الرسائل المكتوبة، وتصل أخبار كثيرة عن مصاعب الحياة، والشوق، والحنين الى عمان. في تلك الأيام حتى النساء كنّ يعملن لتوفير دخل اضافي لمعيشة الأسرة. كنّ يحكن الثياب، والطواقي الرجالية، والرجال يعملون في الجيش، أو في صيد الأسماك، أو النقل البري على السيارات القليلة، أو على ظهور الجمال. هكذا كانت المواصلات بين مختلف المدن، لا سيما المدن الداخلية، فالسفر لها كان صعبا بسبب وعورة الطرق التي لم تكن مرصوفة، ومعبّدة. وكان الناس يعملون في تجارة الحلوى العمانية التي يتناولها العمانيون في أفراحهم، وأتراحهم، وكذلك تعدّ من أهم المأكولات الشعبية الفريدة في نوعها على مستوى العالم. والذين لديهم مزارع يعملون في الزراعة كزراعة الفواكه، والتمور، والمانجو، والليمون، والموز، ففي الجبل الأخضر: الرمان، والزهور لبرودة الطقس، وفي المنطقة الجنوبية في صلالة جوز الهند. وفي مواسم الحصاد يبيعون هذه المحاصيل من تمور، وليمون، وملح، ومنهم من يعمل في الحرف اليدوية كصناعة الخناجر، والبنادق، وهذه الأشياء كذلك لها طابع فريد ربما يتواجد في عمان على وجه الخصوص.
س:،، للمكان دور في تكوين الشخصية الروائية، هل تركت الأمكنة بصمتها على شخصياتك؟
ج:؛؛؛ كيف لا يكون للمكان دور كبير، ومهم في تكوين الشخصية الروائية، ما دامت الشخصية تدور في وسط محدد المعالم، وفي حقبة من الزمن؟
إذ لا توجد شخصية روائية تعيش، وتدور خارج وقتها، ومكانها، فكيف تعيش خارج الزمان، والمكان؟ وهل تعيش في المريخ؟ كلا الروائي، وشخصياته ينطلقون من الاثنين، أي: الزمان، والمكان، ولا يمكن فصل هذا عن ذاك، فهما ملتصقان كالتصاق الروح بالجسد.
المكان، والزمان اللذان يعثر فيهما الروائي على شخصياته ربما لا حدود لهما، ولكن هنالك إشكاليات فنية يجب الانتباه اليها، ومعالجتها. مثلا، بعض الشخصيات، والأماكن لا تناسب العمل الدرامي، لكنها قد تناسب العمل التصويري. يلتقط المصور الفوتوغرافي بعدسة كامرته ما يرى من صور تجذبه، أو تنجذب اليه، وينتهي الأمر، وتكتمل الصورة. الروائي يلتقط الصور في ذهنه، ويبدأ في تشكيلها، وإعادة تشكيلها. سأذهب أبعد من ذلك، وأقول الشخصية الروائية، وكاتبها أشبه بغريبين التقيا مصادفة، ومن دون موعد مسبق، وترتيب محكم. الشخصية عند الروائي عبارة عن مجموعة صور متقاطعة، وعلى الروائي إعادة صياغتها مستخدما خياله كي يعبر عن ألمها، وأحزانها، قلقها، ودموعها، وفرحها. الفنان التشكيلي يفعل ذات الأمر باللوحة، تلتقط عينه الصورة، أو المكان، فيشرع في رسم الأجزاء حتى تمتلئ رقعة القماش، أو الورق بصورة كاملة، ومكتملة، أحيانا يتعمّد تركها مبعثرة، إن كانت تجريدية في طبيعتها، ومن ثم يملأ الحدود، والتخوم بالألوان المناسبة.
س:،،، هل تأثرت بكاتب معين، ونمط كتابته؟
ج:؛؛؛ بالنسبة لي المسألة ليست مسألة تأثر بهذا الكاتب، أو تلك الكتابة، أو بهذا النوع، أو ذاك من كتابة الرواية. المهم هو الاعجاب، والتعجب، والتمعن في أنماط الأعمال الإبداعية، ونجاح الكاتب في تقديم شخصيات تأسر لبّ القارئ، وتجذبه لواقعها.
خذ مثلا أعمال الروائي، والكاتب البريطاني الكبير شارلز ديكنز، الكثيرون يعتبرون أعماله ثقيلة، ومحملة بهموم، ومعاناة الناس في عصر مضى عاشه هو لا نعيشه نحن. يقولون توغل الكاتب في وصف الفقر، والمرض، واضطهاد الغني للفقير، والقمع، والاستبداد السياسي، والاجتماعي، والترفع الطبقي، وغيرها من مشاكل وهموم عانى منها الفرد في المجتمع البريطاني في تلك الحقبة من الزمن، لكنها لا تمت بصلة لعصرنا هذا.
ولكن عندما تستطرد في قراءة أعمال ديكنز يتجلى أمامك المكان، والمضمون وحياة الأفراد التي صورها الروائي بمقدرة فائقة. برزت تلك الشخصيات، والمشاهد تنبض بالحياة، بغضّ النظر عن الوقت الذي كتبت فيه الرواية، أو اختلاف البيئة التي عاشت فيها. إذا كان الاعجاب يعتبر تأثرا، أقول انني تأثرت بمثل هذه الأعمال لها بريقها اليوم، وهي من الأدب الخالد، ولا شك.
يتبع... للحوار بقية... مع د. غالية آل سعيد

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك