د. صالح الفهدي
ما إن نكتب في شأنِ ديننا رأياً معضَّداً ببعضِ الآراءِ من علماءَ في قضيَّةٍ من القضايا التي نريدُ فيها تجديدَ الفقه، دون المساس بالثوابت العقدية، حتى يأتينا-ما كنَّا نتوقَّعهُ- ممنَ يخالفونَ الرأي اتهاماً بقلَّةِ الإطلاع، وجهلاً بالشريعةِ، ودعوةً إلى اتقاءِ الله ..!! وذلك أمرٌ لا يدلُّ على سماحةِ الإسلامِ، ولطفه على الإطلاقِ، بل يدلُّ على ضيقِ الصدورِ، واحتكارِ الرأي.
فلا هؤلاءِ الذين يتَّهمون غيرهم بالجهلِ، وقلَّةِ الإطلاعِ، قد سعوا إلى التجديدِ، والمبادرةِ إلى البحث عن رؤيةٍ عصريةٍ تسهم في تغيير ما في إطارِ الدِّين السَّمحِ، ولا هم تركوا غيرهم يجتهدُ في مندوحةٍ من الدِّينِ..! فلو أتت الردود التي تقصدُ المجدِّدين من العلماءِ، والمصلحين من جهلةِ لعذرناهم لجهلهم، ولكنها تأتي ممن يعرفونُ بالدعاةِ، والعلماءِ، والفقهاءِ، فيتهمون غيرهم بالكفر، والخروجِ عن المتفقِ عليه من جمهورِ العلماءِ، والإتيانِ بالبِدعِ، والزَّندقة، والنِّفاق..!! ناهيكم عن ما يردُ على لسانِ الغوغاءِ من ألفاظٍ نابيةٍ، بذيئةٍ، لا يُمكنُ للسانِ مؤمنٍ يتقي الله أن يتلفَّظَ بها، ثم يعودُ يقرأُ بها الآي الشريف، ويحرِّكُ بها ذكرُ الله..!
الأمَّةُ بحاجةٍ إلى تجديدِ الفكرِ لكي تتعاطى مع شؤونِ دينها وفقَ منهجيةٍ سمحةٍ، مرنةٍ غير جامدةٍ، أُنجزت قبل عصورٍ، وخُتم على فقهها بختمٍ لا يُمكنُ تغييره، وأقفلت بقفلٍ لا يمكنُ فتحه..! والأمَّةُ بحاجةِ إلى تفعيلِ العقلِ لأن العقل هو مناطُ التكليف، ففي تفسيره لهذا المقصد بيّن العلامة محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره القيم (التحرير والتنوير) معنى التكريم والتفضيل حيث قال: (فأمَّا منة التكريم فهي مزية خصَّ بها الله بني آدم من بين سائر المخلوقات الأرضية. والتكريم جعله كريماً أي نفيسًا غير مبذول ولا ذليل في صورته. والتفضيل منظور فيه إلى تشريفه فوق غيره على أنه فضّله بالعقل الذي به استصلاح شؤونه ودفع الأضرار عنه وبأنواع المعارف والعلوم هذا هو التفضيل المراد) .
أمّا حساسيةُ البعضِ نحو الرأي الآخر فهي لا تتفقُ مع يُسْرِ الدِّين الذي "لن يشادَّ أحدٌ إلاَّ غلبه" ، وعلى العلماءِ أن يكونوا قدوةً في التعاطي مع الرأي الآخر-خاصة الغيور على دينه ذلك الذي لا يخرجُ على عقائدَ مسلَّماً بها، موقنٌ بها- حتى لا يتَّبعهم ممن يسيءُ إلى كلِّ مخالفِ، أو صاحبِ حجَّة..!
ولا يجبُ الإسراعُ إلى اتهامِ الآخر لمُخالفتهِ الرأي الذي تبنُّوهُ عن علمائهم، ففي الأثر أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان يحثُّ الآخرين على نقده ويقول:«رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي»، وطبَّقَ ذلك باعترافهِ ذاتَ مرَّةٍ في جمهورٍ من النساءِ بالقولِ:"أخطأ عمر، وأصابت امرأة"، فلم يحتكر فهمه للنصِّ لرأي يقدِّسهُ، وحكمٍ لا يتجاوزه.
ثم إنه لا يمكنُ إلقاءُ التهمةِ بالجهلِ، وقلَّة الإطلاعِ، على من يوردُ آراءً لعلماءَ لهم قدمُ صدقٍ في ميادينِ الإصلاحِ والاجتهاد، فالتهمةُ تنطلي على آرائهم أيضاً وليسَ على مبدي الرأي وحسب..! فما عطَّل الأمّة أكثر من احتكارِ الرأي، والمبادرةِ سريعاً إلى قذف الآخر بتهمةِ الجهلِ إن هو أرادَ أن يطرحَ تفسيراً جديداً، أو رؤيةً ذات مفاهيم مختلفةٍ عمَّا هو متوارث، وقد فعلَ ذلك بجمعٍ من الأدلَّةِ والحجج، وليس بتهوِّرٍ، وسذاجة..! يقول المفكر الإسلامي فهمي هويدي: "ومن نكد الزمان أن نضطر إلى استدعاء الحجج، للدفاع عن أهمية الرأي الآخر الذي يصوِّب ويبني للمستقبل، باعتبار أنَّ ذلك أمر بديهي صار مسلما به، خصوصاً وأن اختلاف الناس في الرأي سنة إلهية، الأمر الذي يسوِّغ لي أن أقول إنه ما أفلح قومٌ صودر الرأي وضاع الحق بينهم".
إن سعةَ الصدورُ تعكسُ سعة الدِّين، وديننا واسعٌ، سمحٌ لم يُقْصِ رأياً، ولم يصادر فكراً، ولستُ بحاجةٍ إلى أن أُدلِّل على ذلك، ولهذا كان أمرُ الله إلى نبيِّه الكريم: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران/159)، إذ إن إقصاءَ الرأي، وتعطيل العقل، ومصادرة الاجتهادِ هي من بابِ الفظاظة، وغلظة العقل.
لايمكنُ لأيَّةِ أمَّة أن ترتقي وهي تتسمُ بحساسيةٍ نحو الرأي الآخر الذي ينتقدُ فكراً، أو سلوكاً، أو منهجيةً نقداً بنَّاءً، يقصدُ به الإِصلاح، والتصويب، والسِّعةِ في الأفهام، فإذا قيِّدتُ العقولُ عن التفكير، والأفهامُ عن النظر، والقلوبُ عن التأمل تعطَّلَ حراكُ الأمَّةِ، وبدأت تجترُّ ما توارثته، وتعيدُ ترديد ما سمعته، ولم تأتِ بجديد، فيصيبها الضمورُ والاضمحلال، وهذا هو حالُ الأُمَّة الإسلامية اليوم.
وإذا لم يكن حسنُ النوايا حاضراً قبل كل اطلاعٍ على رأي، بادرَ المطلع من فورهِ إلى اتهامِ صاحبِ الرأي – وإن كانَ مسنوداً بآراءٍ مُعتبرة- بشتى أنواعِ الاتهامات، وكأنَّما لا يجوزُ لأحدٍ من المصلحين أن يُظهرَ رأياً في هذا العصر، لأن الاجتهادَ في الدِّين قد أصبحَ جرأةً نادرةً لا يسلمُ صاحبها من اتهامات التكفيرِ والزَّندقة..!!
ومنذ زمنٍ بعيدٍ كنتُ في مجلسٍ من المجالس يتداولُ فيه الجميعُ شأناً اجتماعياً، فأكَّدوا ما قالهُ أحدُ العلماءِ فيه، فقلتُ: لا يجب الأخذُ مأخذ القطعِ في مقولةِ العالمِ الفلاني لأنه يذكرُ عن نفسه أنه ينقل عن ذاكرةٍ قد تُخطيءُ وتصيب، فحدجني أحدهم بنظرةٍ غضبى قائلاً: ما بالك تحطُّ من قدر علمائنا؟ قلتُ لهم: العلماءُ ليسوا أنبياءَ حتى يعصمون من الأخطاء ..!
إننا لنتوقعُ من كل حاملِ فقهٍ، أو صاحبِ علمٍ، أو داعٍ إلى الإصلاحِ أن يكونَ قدوةً في سعةِ الصدرِ، وحلم النفس، فإذا اطلعَ على رأي يراهُ مخالفاً للدِّينِ حسب ما تعلَّم، ردَّ بأحسنِ ما تكونُ عليه الردود، فكم من حقٍّ أُعرضَ عنه لفظاظته، وكم من باطلٍ صَبتْ به الألبابُ للينهِ ولطافته..!. نريدُ من عُلمائنا، وفقهائنا أن تتسعَ صدورهم، وتعظم أحلامهم، وتحسن ظنونهم، فإن أخطأنا صوبّونا بأحسنِ ما يكونُ عليه التصويب، وإن أصبنا شجَّعونا بأعظم ما يكون عليه التشجيع. نريدُ منهم أن لا ينظروا لكل رأي تبنوه أنه الأوحد الذي لا يمكنُ تجاوزه، بل أن يروا في رأي غيرهم من العلماءِ فضيلةً تدلُّ على سماحةِ، ولطفِ، وعظمةِ هذا الدِّين العظيم، فوالله ما أضرَّ الدِّين سوى ضيقِ الأفهامِ، واحتكارِ الرأي، وتسويرِ النظرات، وما أعظم قول الإمام الشافعي رحمة الله عليه في هذا المقام "ما ناظرتُ أحداً إلا تمنيتُ أن يظهرَ الله الحقَّ على لسانه"..