الحياة الفكرية والثقافية في عـُمان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:

ظاهرة نسخ الكتب في عمان: (9/11)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

    شهدت عمان غزارة في الإنتاج الفكري في بداية العصر البوسعيدي في حركة متواصلة منذ عصر اليعاربة، إلا أن صناعة الكتاب لم تكن يسيرة على الإطلاق، إذ لم تتوفر لعمان مصادر ذاتية لانتاج الورق، بل كانت تستورده من الخارج، وفي معظمه من الهند، وفي غياب آلات الطباعة ظهر النساخون ليتولوا أمر الكتابة، نقلا عن المؤلفين، ووفقا للإمكانيات المتاحة آنذاك. ولم تتوفر نسخا كثيرة من المصنف الواحد ، فإذا ما فقدت تلك النسخة اليتيمة من بعض الكتب فإن جهد المؤلف والناسخ ضاع نهائيا. وهناك العديد من الإشارات في كتب التاريخ والأدب العمانية على فقدان النسخ الوحيدة، منها ما ذكره الشيخ سعيد بن محمد بن راشد الخروصي من أنه وضع ذات مرة كتابا في صخرة أعلى قناة الماء (الفلج) ـ ربما أثناء مروره في إحدى المزارع أو بالقرب من داره ـ فسقط الكتاب في الفلج، وفشلت محاولاته للحاق به وفقد أثره،مما أحزنه كثيرا لأنه لا توجد منه نسخة أخرى، وأنشد أبياتا في رثاء الكتاب ـ وكأنه فقد أحد أبنائه ـ  قائلا:

    دهتني ولا أشكو لربي مصيبــــــة    أتتني وحلت في فؤادي وفي قلبـــي
    كتابي ثوى من بعد ما قد رفعتــــه    على حجر في جدول دائـــم السكـب
    وقد خضت أقفو إثره لم أقف لــــه    على خبر يؤتى ببعــــد ولا قـــــرب
    كتاب عليه العين تنـّهل عبـــــــرة     فلا عوض لي عنه في سائر الكتـب
    فهب لي خيرا منه يا خيــر مـــــن    دعي  فإنك أهل الجود والمن يا رب

ومن هذا القبيل ما ذكره الشيخ محمد بن عامر المعولي مؤلف (المهذب وعين الأدب)  من إعارته هذا الكتاب إلى السيد هلال بن الإمام أحمد والشيخ حبيب بن سالم أمبوسعيدي
ولكنهما فقدا الكتاب لفترة، ثم وجداه فأرسلاه إلى مؤلفه الذي استبشر بوصول كتابه، وأنشد بيتين بهذه المناسبة قال فيهما:

    وافى كتابي الذي قد كنت فاقده    ولم أزل بشفاه الثغر أرشفـــه
    وصرت لما تلقاني البشير بــه    كأنما قد أتى يعقوب يوسفــــه

كان النساخون يتفرغون للكتابة بإملاء العالم لهم ومراجعة ما يتم تدوينه، ولم تقتصر مهمتهم على ذلك بل نسـخوا بعض الكتب القديمة. وكان من الشروط الواجب توافرها في الناسخ: أن يكون على قدر من الثقافة وجودة الخط، وكان بعض العلماء يتولون مهمة النسخ بأنفسهم، ومنهم على سبيل المثال الشيخ عبدالله بن بشير الحضرمي، وهو من علماء القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي وله عدة مؤلفات، ومن أبرز ما خطه بيمينه مصحف للقرآن الكريم يعد ثروة علمية وفنية نادرة، إذ استخدم طريقة غير مسبوقة في كتابة المصحف، لم يظهر لها مثيل بعد وفاته، إذ جمع في المصحف القراءات السبع بطريقة فنية بديعة لا يفطن إليها إلا من أمعن النظر في الخط، ويعد هذا المصحف نموذجا حيا على فـن الخط العربي. ومن النساخ الذيـن ظهروا في الشطر الثاني من القـرن الثامن عشـر: محمد بن سليمان الحارثي، ويحيى بن حسن ، وسليمان بن محمد المعولي ، وسليمان بن محمود العجمي ومنهم كذلك سالم بن طالب الكهيلي ، والشيخ سعيد بن سالم الفارسي.

تستهل الكتب عادة بتقريض من أحد العلماء الذي يكون قد اطلع على كتاب المؤلف. والتقريض إما أن يكون نثرا أو شعرا، ومن نماذج التقريض ما ورد في غلاف كتاب المهذب وعين الأدب الذي ألفه محمد بن عامر المعولي حين استعاره السيد هلال بن الإمام أحمد بن سعيد فقال في تقريضه:

    مهذبنا أم سمط سلك من الــــــدر   بلى وهو في علم اليقين من البحر
    أتيت به في الناس كاسمك أو لهم    كجدك أو في سائر الكتب كالذكر
    فحق علينا مدحه وهو أهلــــــــه    وأسطره أحرى تنمق بالتبــــــــر
    ولكني أبطأت في رده ومــــــــن    يره يجد في ضمنه نشوة السكــر
    فكن لي عاذرا يا سلالة عامـــــر   وأسبل هداك الله ثوبا من الستـــر

ويختتم الكتاب غالبا بذكر اسم الناسخ والمنسوخ إليه، وتاريخ الانتهاء من عملية النسخ، ويذيل بالدعاء. ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في ختام كتاب (مصباح الظلام)  للشيخ أحمد بن عبدالله الرقيشي إذ جاء فيه:
" تم هذا الكتاب المبارك يوم الخميس لاثنين وعشرين ليلة خلت من شهور ذي القعدة من شهور سنة 1214هـ، وهي للسيد الأبر والكوكب الأزهر حمد بن محمد بن سليمان بن عدي اليعربي العربي أعزه الله وغفر له، ويسره على يد خادمه الفقير لله والغني به سالم بن طالب بن سالم بن رشيد بن طالب بن كهلان الكهيلي النخلي. اللهم اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، اللهم صلي على خير خلقك محمد النبي وآله وسلم

شاع في كتب تلك الفترة الإضافات التي يضيفها العلماء على هوامش الصفحات وحواشيها. كما تظهر في الغلاف الأول أو الأخير للكتاب ما يشير إلى انتقال ملكية الكتاب من شخص لآخر بالإهداء أو البيع أو الميراث، وهي ملاحظات وإضافات لها قيمتها التاريخية. كما أن بعض الكتب تدخل في إطار الوقف الإسلامي، إذ يشتريها بعض المقتدرين ويوقفونها على بعض المساجد أو المدارس للإستفادة، ومن أمثلة ذلك ما ورد في الصفحة الأولى لمخطوط شرح المنظومة العمريطية إذ جاء فيها: " هذا الكتاب من الكتب التي خلفها القطب النوراني الخروصي، وهو وقفا مؤبدا إلى يوم القيامة، فديته من أيدي القوم الداخلين بيت الرأس وجعلته وقفا مؤبدا. زهران بن سالم بن سيف الشريقي يوم 24 رجب 1281هـ".

تعليق عبر الفيس بوك