الغش الدراسي .. مخاطر مستقبلية

أ.د/ أسامة محمد عبد المجيد إبراهيم
أستاذ علم النفس التربوي بجامعة سوهاج – جمهورية مصر العربية


بات الغش الدراسي ظاهرة مؤرقة بعد أن تنوعت مظاهر الغش واتسع نطاها، حتى وصل الأمر إلى أن أصبح من بين المربين أنفسهم من يسوق المبررات لهذا السلوك المشين! وتشير كتابات بعض الباحثين إلى أن الاستعداد للغش أصبح هو القاعدة، وأن الآباء والأمهات والمعلمين لم يعودوا قادرين على كبح جماح ذلك. وقد عرفت مدارسنا – وحتى الجامعات- مسارا تصاعديا لظاهرة الغش، حتى صارت في عُرف البعض "حقا مكتسبا" من حقوق المتمدرسين لا يمكن التنازل عنه.
تناول كثير من الباحثين ظاهرة الغش وتأثيراته السلبية على عدالة التقييم، وعلى مخرجات التعليم، وضعف أداء الخريجين، وآثاره اللاحقة على المجتمع وسوق العمل، وضعف الثقة في خريجي مؤسساتنا التعليمية. وكاتب هذا المقال يلقي الضوء على جانب آخر خطير لهذه الظاهرة السلبية المتنامية.
تشير نتائج البحوث العلمية الحديثة إلى أن نسبة كبيرة من المراهقين يشاركون في أنواع مختلفة من سلوكيات غير أخلاقية. منذ عام 1992، يجري "معهد جوزفين للأخلاقيات  مسحاً نصف سنوي للسلوكيات غير الأخلاقية بين الأميركيين من جميع الأعمار. وكشفت دراسة استقصائية عام 2008 عن نتائج مذهلة، فقد ذكر نسبة (64%) من طلاب المدارس الثانوية الأمريكية أنهم قد مارسوا الغش في الاختبارات التي تجريها المدرسة؛ وأن (42%) كذبوا من أجل توفير المال؛ و30% سرقوا شيئا من مخزن المدرسة. كما أظهرت دراسة جوزفين أن 51% من المراهقين أعربوا عن موافقتهم على عبارة "في بعض الأحيان من الضروري الكذب أو الغش كي تنجح"، وأعرب حوالي 40% عن استعدادهم للكذب لتحسين فرصهم في عملية القبول في الكلية. وكانت المفاجأة أيضا من أن 90% من هؤلاء المراهقين وصفوا أنفسهم بأنهم "راضين عن شخصيتهم وأخلاقياتهم الخاصة".
هذه أبرز النتائج التي توصلت إليها هذه الأبحاث التي أجريت في أحد مشروعات الأعمال الجيدة بجامعة هارفرد. ووفقا لـ فيشمان وزملائه، أعرب عدد كبير من الشباب عن الاعتقاد بأن طموحاتهم الوظيفية تقتضي تنازلات أخلاقية.
وبعبارة أخرى، يعتقد العديد من الشباب أنهم لا يستطيعون تحمل كلفة أن يلتزموا بالأخلاق  في الوقت الحاضر؛ ومع ذلك، أفاد الباحثون أن "كثيرا ما كان يتلو هذا الإقرار تأكيدا بأن هؤلاء المراهقين أنفسهم عندما يحققون مكانة بارزة، فإنهم سيتصرفون بطريقة جيدة ومختلفة أخلاقيا". لكن في تناقض صارخ مع هذه التأكيدات، هناك دليل قوي على الارتباط الوثيق بين اتجاهات الشباب نحو الغش وبين والأنماط المستمرة من خيانة الأمانة عندما يدخل الشباب عالم الكبار. على سبيل المثال، في دراسة تنبؤية لمعهد جوزفين وجد أن الأفراد الذين يغشون في اختبارات المراهقين كانت من المحتمل أن يكونوا مخادعين في حياتهم المهنية بمقدار الضعف مقارنة بالأفراد الذين لم يغشوا ، و 50 ٪ أكثر احتمالاً للكذب والغش في الضرائب. تشير هذه النتيجة إلى مكمن الخطورة التي لا يدركها كثير من الآباء والمربين وهي أن سلوك الغش لن يتوقف بل سيمتد ويستمر مع أبنائهم في مستقبل حياتهم.
واقترحت دراسة استقصائية أجريت في عام  2000م بواسطة Who’s Who  على طلاب المدارس الثانوية الأمريكية أن خيانة الأمانة الأكاديمية (الانتحال أو السرقات العلمية) متفشية بين المراهقين الأمريكيين كذلك. وتسعى الدراسة السنوية المسحية لـ "من هو" Who’s Who  بشكل صريح إلى فحص أكثر من 20,000 من طلاب المدارس الثانوية العليا من ذوي التطلعات لمتابعة التعليم العالي. في عام 2000م، اعترف 80% طلاب المدارس الثانوية الذين شملهم استطلاع Who’s Who بالانخراط في شكل من أشكال سلوك الغش.
قد يتساءل البعض، وماذا عن الغش ومستوى السلوكيات غير الشريفة في مجتمعنا؟ في الحقيقة ليس هناك دراسات مسحية موثقة حول هذه الظاهرة في مجتمعاتنا – حسب علمي- لكن أستطيع أن أقول إن الرصد العام لهذه الظاهرة المتنامية يظهر أن الغش أصبح إشكالية حقيقية في مجتمعنا.
والآن ما سبب هذه الظاهرة، وما العلاج؟ تناول الكثيرون أسباب عديدة آخرها انتشار أجهزة الهواتف الذكية، ومواقع التواصل، وإنني أرى أن المشكلة الحقيقية تكمن في تدني التفكير الأخلاقي، وعدم عناية المربين والمؤسسات التربوية بتطوير النمو الخلقي لدى الطلاب.
إن هناك حاجة قوية للاعتناء بتنمية العقل الأخلاقي لدى المراهقين ومساعدتهم على تطوير مخططات معرفية أكثر توازنا بين أخلاقيات الاستقلالية وأخلاقيات المجتمع.
تقترح نظرية تطور النمو الأخلاقي التي طورها عالم النفس أن المراحل الأولى للنمو الأخلاقي تبدأ بمرحلة "التمرّد الأنانيّ"  -الطبيعة الأنانيّة لمعظم الأطفال الصغار. في هذه المراحل يتّبع الأطفال القوانين لأسباب أنانيّة محضة؛ كي يتجنّبوا العواقب، أو ليحصلوا على مكافآت إيجابيّة من الآخرين. وتتضمّن المراحل الوسطى من التطوّر الأخلاقيّ الانصياع للتقاليد التّي اتّفق عليها معظم الناس في ثقافة معيّنة.  ويجد معظم الأفراد أنفسهم في هذه المرحلة يسعون وراء الطاعة كهدف بحدّ ذاتها، ويتجنبون الرفض الاجتماعي. وفي هذه المرحلة أيضًا يتّبع الأفراد القوانين دون سؤال، وثمّة القليل جدا من الاستثناءات للأعراف التقليديّة التّي يمارسها معظم الناس. أما المراحل العليا من التطوّر الأخلاقيّ فهي المراحل التي يبدأ فيها الأفراد بنقد الأعراف والتقاليد ومناقشتها باستمرار وشمولية. إنّهم يعرفون القواعد والقوانين، لكنّهم يأخذون في الحسبان المعايير الشخصيّة، والأخلاقيّة التّي قد تتعارض مع العادات.
وبافتراض أن النمو الأخلاقي ينمو ويتطور عبر مراحل النمو الحاسمة من خلال خبرات التربية في الأسرة والمدرسة والمجتمع، فإن توقف النمو الأخلاقي عن مستويات النمو الأولية يخلق لنا جيلا من النشء الأناني غير قارد على التعامل مع المعضلات الأخلاقية بدرجة ناضجة.
يجب أن يولي الآباء والمعلمون في المدارس النمو الأخلاقي عناية خاصة، وأن يدركوا جميعا أننا نخاطر فقد جيل كامل إذا أهملنا ذلك لأن سوف يفضي إلى طلاب أذكياء لكنهم بدون رؤية إنسانية، لأن الأفراد بدون أخلاقيات سوف يسفر عن عالم خالٍ من عمال لائقين ومواطنين مسؤولين؛ إن الطالب الذي يغش في الامتحان أو يقوم بتقديم واجبات أو مهام دراسية منتحلة في المدرسة الثانوية - حتى ولو كان تحت ضغط الموعد النهائي- هو ذات الشخص الذي سيجد عشرات المبررات لكل السلوكيات غير القانونية وغير اللائقة؛ هو ذات الموظف الذي سيرتشي بدعوى الحاجة، والذي يتهرب من الضرائب بدعوى أن الدولة لا تعطيه حقه، وهو ذاته الشخصية الوصولية التي تنافق رؤساء العمل للصعود على أكتاف الآخرين.
في كل الحالات، فإنه يجب أن نسعى إلى تجهيز الشباب لاجتياز المعضلات الأخلاقية والالتزام بمبادئهم حتى عندما — أو خاصة عندما — تسير الأمور ضد مصالحهم الشخصية.
وأخيرا دعوة للباحثين إلى دراسة علاقة الغش الدراسي بالنمو الخلقي لدى المراهقين، وإلى مراكز الاستطلاع العناية برصد السلوكيات الأخلاقية وانتشار ظاهرة الغش بصورة خاصة في المدارس، والوقوف على الأسباب والدوافع.

تعليق عبر الفيس بوك