مدينة "مطرح" في ثلاث قصص عمانية معاصرة (1-3)

د. إحسان اللواتي – جامعة السلطان قابوس


تبوأت المدينة مكاناً مميزاً بين مختلف الأمكنة التي برزت في النتاجات الأدبية العربية المعاصرة ، على اختلاف اتجاهاتها ومدارسها التي تنتمي إليها ، وكان لهذا أسبابه وتجلياته وجمالياته ، مما لا سبيل إلى الخوض فيه هنا (1)0 وليس الإبداع الأدبي العماني المعاصر بمنأى عن هذا كله ، فللمدينة وجودها البارز في نتاجات شعرية ونثرية كثيرة تتفاوت فيما بينها في جوانب كثيرة ، لكنها تشترك في إبراز المدينة وإظهار شؤون وقضايا ترتبط بالحياة فيها وطبيعة العوامل والأسس التي تتحكم فيها وفي أهلها ومن يفد إليها من خارجها 0
إنَّ هذه الدراسة تسعى إلى ملاحقة الوجوه التي تتبدى بها أهمية مدينة معينة في نصوص قصصية عمانية معاصرة معينة أيضاً. أما المدينة فهي مدينة "مطرح" (2) ، وأما القصص فهي ثلاث :
1-    " قناديل مطرح " ، ليونس بن خلفان الأخزمي (3) 0
2-    " يوم صمت في مطرح " ، له أيضاً (4) 0
3-    " بوابات المدينة " ، لمحمد بن سيف الرحبي (5) 0

تشترك هذه القصص الثلاث في كونها تحمل " المدينة " أو اسم مدينة معينة هي "مطرح" في عناوينها ، ولعل هذا ما دعا إلى اختيار هذه القصص بالذات دون سواها لتكون موضعاً لهذه الدراسة 0 وهذه العناوين تشي- منذ البداية- بما لمطرح من أهمية فيها ؛ ذلك أن العنوان لا يختاره الأديب عادةً إلا بعد جهد جهيد ، وبعد أن يكون قد أعمل فكره ملياً في كل ما عساه أن يكون ذا أهمية في قصته ، حتى إنَّ بعض الدارسين المعاصرين نقل عن إبراهيم عبد القادر المازني قوله عن نفسه : "إنه يكتب القصة في ساعة ، ويفكر في اختيار عنوان لها في ساعتين ! " (6) 0

إن أهمية مطرح في بناء هذه القصص تتجلى في الأمور الآتية:
1) التأثير في إيقاع الحدث وسيرورته :
إنَّ دقة الأديب في اختيار مكان قصته تفسح أمامه المجال واسعاً ليعطي أحداث قصته وأبعادها المختلفة المدى الذي يريده لها ، وذلك من خلال إيحاءات المكان وظلاله المتنوعة التي تعمل على تعميق الدلالات وتأسيس الرؤى والتأثيرات التي تسعى إليها القصة0 فعنوان القصة الأولى " قناديل مطرح " يوحي بوجود ظلمة مدلهمة لا يكفي المرء فيها قنديل واحد ، بل لا بد من " قناديل0 " و "القناديل " إنما يحتاج إليها المرء ليحدد مسيره أو ليبحث عن شيء أثير لديه قد ضاع منه ، وتتأكد هذه الدلالة عندما نلحظ الصيغة اللغوية لـ " مطرح " : اسم مكان الطرح.
وليست القضية مقصورة على الصيغة اللغوية وحدها ، فالراوي إنما جاء باحثاً عن الذات التي هربت- في لحظة جنون- من صفاء القرية وهدوئها إلى مطرح بكل ما فيها من غموض واختلاف عن الحياة السابقة ، فظلت الذات " مطروحة " في مطرح على مدى عشرين عاماً ، باحثة عن الخير الذي عساه يكون " مطروحاً " فيها :
" تتقاذف أخبـاره الشوارع والأسواق0 شاهدوه منتصباً فوق الأرصفة كتمثال فقد اتجاهاته ، يلوح بعصاه ويدندن بكلمات لا تُفهم  0 يذرع الأسواق والسكك بحثاً عن وجه قروي يألفه ، لكنه يظل وحيداً ، مسكوناً بالجنون المقدس " (7) 0
إنَّ وصف مطرح هنا – بكل ما تحمله الشوارع والأسواق والسكك من دلالات- يسهم إسهاماً واضحاً في دفع الإيقاع الحدثي المتمثل في الغموض المسيطر والبحث الدائب إلى مداه الأوسع ، فيكون للمكان أثره في سيرورة الحدث وحركته 0

  وفي القصة الثانية " يوم صمت في مطرح " يفاجأ القارئ بأنَّ كل شئ في نهارٍ ما كان صامتاً وهامداً ، فـلا حركة ولا صوت حتى من الديكة والحشرات والبحر فضلاً عن البشر وسياراتهم ومتاجرهم وأسواقهم ، وهذا أمر غريب وغير متوقع 0 ويمعن القاص في تعميق هذه الغرابة حين يختار مدينة كبيرة مثل " مطرح " المعروفة بحركتها وأسواقها وتجارتها مكاناً لهذا " الصمت " الذي تتمحور حوله القصة 0 وإذا كان من المألوف أنَّ " تشخيص المكـان في الرواية هو الذي يجعل من أحداثها بالنسبة للقارئ شيئاً محتمل الوقوع ، بمعنى يوهم بواقعيتها " (8) ، فإنَّ القاص هنا يعمد إلى عكس هذا تماماً ، فيستفيد من كل الطاقات الإيحائية التي يشتمل عليها المكان في سبيل تعزيز المفارقة التي أرادها ، المفارقة التي تبرز من العنوان :" يوم صمت في مطرح " والتي تدور حولها أحداث القصة كلها 0
إنَّ القاص هنا يبدي براعة ملحوظة في تعمد اختيار الأماكن التي يكثر فيها الازدحام والحركة والضوضاء عادة في مطرح ، فهو يختار أماكن من مثل سوق الظلام ، وشارع الكورنيش ، وسوق السمك 0 يقول مثلاً :
" وكنت قد اعتدت مع صبيحة كل جمعة على حلاقة لحيتي والتوغل في الأسواق حيث يروق لي كثيراً مشاهدة الباعة والتجار والزبائن ووجوه النساء المتزاحمات علـى المحلات قبل أن أصل إلى سوق السمك0 هذا الصباح تبدو الأشياء غريبة جداً : البيوت هادئة ، السكك صامته ، المحلات جافة ميتة ، حتى صياح الديكة الذي كثيراً ما نرفزني مع كل فجر جديد ، اختفى اليوم تماماً " (9) 0
وهكذا تكون مطرح – بكل ما فيها من حركة وضجة في العادة – عاملاً بيد الأديب ، يعمل على تعميق غرابة الأحداث التي أراد لقصته أن تتناولها0
أما القصة الثالثة " بوابات المدينة " فتحاول أن تقارن بين عهد النهضة العمانية الحديثة منذ 1970م والعهد الذي سبقه ، من خلال قضية خلفان الذي يهرب مع أسرته الكبيرة من قريته ، تاركاً وراءه واقعها الثقيل المتمثل في الثارات القبلية والأمراض والفقر والموت اليومي بلا معنى ولا غاية، ومتجهاً صوب مطرح التي كان يؤمل أن تكون الجنة المنتظرة :
" هـذه أمامهم الجنـة المنتظرة تفتح ذاكرتها للتاريخ وللرزق القادم من أفواه أسماك القرش " (10) 0
لكن الأمور لم تمضِ حسب ما كان يؤمله ، فقد استغرق السفـــر إلـى الجنة المنتظرة أياماً ثلاثة قاسية ،وباتت الأسرة كلها إلى الصباح في العـــراء عند البوابة التي أغلقــت قبيل دخــولهم إلى " البندر "، وبعد دخول الجنة ما لبث خلفان أن أعتقل بتهمة إطلاق الرصاص من بندقيته التي كان يحملها وحسب ، وطال اعتقاله عاماً قضاه سجيناً في " الكوت " ( أي القلعة المستعملة سجناً) ، وكانت هذه المدة كافية لكي تموت زوجته ويتشرد أطفاله0
بعد هذا كله ، ليس من العسير على القارئ أن يستخلص أنَّ إيقاع الأحداث في القصة يرمي إلى أنه لم يكن ثمة فرق ظاهر في عهد ما قبل النهضة بين القرية والمدينة ، فلهذه مآسيها ولتلك مصائبها ، والفرق – إن كان – فرق في المظاهر والتجليات ، لا في الواقع والحقيقة 0وهنا تبرز أهمية اختيار مطرح ، المدينة الشهيرة التي يلهج القرويون باسمها ويتوقون إليها ، حتى إذا جاؤوها اكتشفوا أنّ كل آمالهم فيها لم تكن سوى سراب بقيعة ، وأنَّ واقعها لا يكاد يختلف عن واقع قراهم:
" أين المعجزة تتفجر مع موج البحر في ديجور هـذا الليل الذي يحاكي القرية برعب لياليها ؟ أين هذه المعجزة ترجع القبطان الغائب في موجة أخذته وتركت البقية دون أدنى تجربة في القيادة ؟ إنه الغموض والصدفة المليئة بالأسرار 0 تحركت الأقدام الصغيرة تذرع سوق مطرح المتهالك 0 في سكة الظلام مشت الأجساد تتهجس بعفوية ، والأم تغرق في دموعها" (11)0
إنَّ هذا الوصف لمطرح ، المشتمل على محطات مختارة بعناية : موج البحر والليل المرعب كليل القرية وسوق مطرح المتهالك وسكة الظلام ، ليعمق الإيقاع الذي أراده الأديب تعميقاً واضحاً ، حتى ليمكن ترديد قولة غالب هلسا بثقة :" إنَّ المكان يلد السر قبل أن تلده الأحداث الروائية "  (12) 0

تعليق عبر الفيس بوك