مدرين المكتومية
كلما تابعت مدى النجاح والسطوة الكبيرة التي أصبحت تتمتع بها وسائل التواصل الاجتماعي في مجتمعنا ومدى سيطرتها على تفاصيل حياتنا اليومية أتذكر هذا الشطر الشهير من بيت الشعر لأبي نواس عندما قال (وداوني بالتي كانت هي الداء) ، والذي يكاد يصف حقيقة ما نعيشه، رغم أنه لم يقل لنا كيف نتعامل مع ما ظنناه دواءً فصار داءً، خاصة ونحن نتحدَّث عن وسائل التواصل، التي أنجبتها التكنولوجيا الحديثة فتغولت وصارت وحوشًا تقلب حياتنا رأسًا على عقب، وللأسف كل هذا كان بلمسات أصابعنا على شاشات الهواتف.
وعكس ما هو عنوان لها "التواصل" صارت وسائل جديدة لإحداث الشقاق والتفكك الأسري بل وبعض حالات الطلاق، وصارت شبكات التواصل الاجتماعي شباكا للإيقاع بنا في الكثير من السلبيات على المستوى الاجتماعي، وحتى التواصل الاجتماعي الحقيقي من خلال التجمعات العائلية ولقاءات الأصدقاء والجلسات الأسرية بات بسببها أشبه بمجلس غرباء، أو لقاء بالصدفة في ظرف اضطراري.
كثير من الأمور صارت تتضاءل أهميتها أمام نغمة تنبيه لرسالة واتساب أو إشعار من الانستجرام، أصبح الكثيرون يصورون قبل الأكل وبعده، ويضحكون فقط لكاميرا التليفون وليس لمن حولهم، حتى أن بعضهم يسير مشغول البال ومغيبا غير مدرك لما يدور حوله لمجرد انتظاره رد تأخر على رسالة أو علامة لايك على تعليق. والمصيبة لا تكمن في الانشغال بالشاشة وما فيها من إيموشن وعلامات تعبير مصورة بقدر ما تكمن فيما يحدث من تلك الشاشات وبسببها.
ولن أطيل فيما تتسبب به الرسائل والانشغال من حوادث تفقد الناس حياتها، فالأرقام تضع الانشغال بالهاتف على رأس أسباب الحوادث في العالم كله، لكن ما بدأ يطل برأسه مؤخرا في مجتمعنا هو أزمة الثقة التي تسببها وسائل التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة، فقد أصبح من المألوف أن يفتش الزوج هاتف زوجته وتفتش الزوجة هاتف زوجها ثم تلوح أزمة من عدم الثقة بين الاثنين، والأسوأ أن تتعمق هذه الأزمة مع الوقت مخلفة وراءها كارثة تنتهي بتشتت العائلة، أو على أقل تقدير وصول أحد الطرفين في كثير من الأحيان إلى مرحلة الهرب من المنزل وقضاء الوقت خارجه.
وللأسف كل ذلك لم يعد أمراً نادر الحدوث بل أصبح عاديا حتى مع صفاء النوايا، لأنَّ الأمر يرتبط بأطراف وليس طرفا واحدا فقط، ويزداد تعقيداً لأن كل طرف لديه نظرته وأسلوب تفكيره في الأمور، وعلى سبيل المثال فقد أصبح أيضًا إرسال الأيقونات أو الرموز والقلوب والقبلات أمرًا عادياً لدى البعض لا يخرج عن كونه أحد التعبيرات المصورة، بينما لدى البعض الآخر هو بمثابة رسائل إغراء أو تعبير عن علاقة أكثر عمقًا، ويزداد الطين بلة إذا كان أحد أطراف الأسرة أكثر تشددا.
والأمر قد يتحول إلى ابتزاز أدبي ومالي لمجرد وجود بعض التعبيرات المصورة، ولولا انتشار هذه الحالات لما سمعنا عن الابتزاز الإلكتروني والقضايا المعلقة في المحاكم والكثير من البلاغات التي تتلقاها الجهات المعنية، وأغلبها يندرج للأسف تحت عنوان خدش الحياء ولا يفرق بين المقاطع الخادشة للحياء والصور غير اللائقة أو الأحاديث الرومانسية، حتى وإن كانت من طرف واحد والتي تضع الشخص في موقف حرج وتصل به إلى طريق مسدود، فأحيانا تبدأ القصة بأيقونات وينتهي الأمر إلى قضايا وفضائح لا يمكن تلافيها، لمجرد تفاوت النظر لتلك الأيقونة.
الأمر لم يعد مجرد هاتف صغير نحمله، أو وسائل تواصل نشارك فيها لقد أصبح هناك من يتحكم فينا ويغير مسار حياتنا أحيانًا، ويهددنا بفقدان وقت حقيقي في سبيل وقت افتراضي، لكن كذلك للأمر وجه آخر بعد أن صار يشبه جهازا لكشف الثقة وليس الكذب بين الطرفين خاصة في علاقة زوجية يفترض أن تستمر بدون وسائل "تواصل اجتماعي".
madreen@alroya.info