سؤال في التفسير:

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (21)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيدي – جامعة نزوى


مازلنا رهن الإجابة على سؤال تلميذي النجيب: هل لك أن تبيّن لي تصورك عن فواتح السور في القرآن الكريم كلها بنظرة منهجية؟
فرتبتها إجمالا على ست مجموعات وفي الحلقة السابقة تناولنا المجموعة الأولى وهي السور المبدوءة بالحروف المقطعة في (29 سورة)، وفي هذه الحلقة سوف نتناول المجموعة الثانية وهي سور الحمد والتسبيح وعددها (12 سورة) وهي السور التي تصدرها القسم، وهي خمس عشرة سورة: الصافات/ الذاريات/ الطور/ النجم/ المرسلات/ النازعات/ البروج/ الطارق/ الفجر/ الشمس/ الليل/ الضحى/ التين/ العاديات/ العصر. وجميعها بدأت بواو القسم، وهي مكية إلا العاديات فمدنية. ونضيف إليها سورتين: القيامة والبلد، وهما مكيتان، فقد بدأتا بـ (لا أقسم) وفي هذا التعبير خلاف سنقف عليه.
والقسم – على ما نرى – أعلى مراتب التوكيد، فهو "تأكيد الخبر بما يجعله في حيّز المتحقق"(1). وفي أسلوب القسم: فعله وحروفه قيل: "لما كان يكثر في الكلام أختصِر، فصار فعل القسم يحذف وُكتفى بالباء ثمّ عُوّض من الباء الواو في الأسماء الظاهرة، والتاء في أسماء الله كقوله: (وتالله لأكيدن أصنامكم)(2)، وقد نُقِل: ترب الكعبة، وأما الواو فكثيرة"(3).
إنّ أقسام الله جلّ ثناؤه بمخلوقاته فضيلة من أعظم فضائله، ودليل على أنّه الوحيد الخالق يجعل منها مشاهد تُدرك بالأبصار والبصائر، وقد فصل ابن قيّم الجوزية (ت751ه) في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) بما ورد في التنزيل من أسلوب القسم يراد به التوكيد والتحقيق، وأنّه دليل على عظيم آياته(4). ومن المفيد أن نذكر أنّ هناك فرقاً بين (القسم) و(الحلف) لئلا يظنّ أحد أنّهما مترادفان(5).
لقد استهلت السور الخمس عشرة بالواو التي رأت فيها السيدة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ، ت1998م) أنّ القسم بها "قد خرج عن أصل الوضع اللغوي في القسم للتعظيم إلى معنى بياني... فالواو في هذا الأسلوب تلفت لفتاً قوياً إلى حسّيات مدركة... وما يلمح فيه من إعظام"(6).
أمّا استهلال سورتي (القيامة) و(البلد) بـ (لا أقسم...) فقد ورد هذا التركيب في أثناء سور أخرى كقوله سبحانه وتعالى:
-    (فلا أقسم بمواقع النجوم... الآية 75 من سورة الواقعة).
-    (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون... الآيتان 38،39 من سورة الحاقة).
-    (فلا أقسم برب المشارق والمغارب... من الآية 4 من سورة البروج).
-    (فلا أقسم بالخنّس... الآية 15 من سورة التكوير).
-    (فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتّسق... الآيات 16، 17،18، من سورة الانشقاق).
وعلّق الشيخ محمد عبده (ت1905م) على الاستهلال بـ (لا أقسم) فقال: هي "عبارة من عبارات العرب في القسم يراد بها تأكيد الخبر كأنّه في ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم، ويقال أنّه يؤتى بها في القسم إذا أريد تعظيم المقسم به"(7). وأضافت عائشة عبدالرحمن فقالت: "إنّه لم يستعمل (لا أقسم) إلا حين يكون الفعل مسنداً إلى الله تعالى"(8)، مما يرجح "أنّ نفي الحاجة إلى القسم تأكيد له"(9) على ما مرّ.
واختلفت الآراء في توجيه (لا) التي سبقت (أُقسم) فكانت على الوجه الآتي:
-    أنّها حرف نفي "ردّاً لكلام قد كان مضى"(10).
-    أنها زائدة، صلة الكلام(11).
-    أن لامها لام ابتداء أُشبعت فتحتها فتولدت عنها ألف(12).
-    وقد قُرئ (لأقسم...)(13).
وفي ضوء ما تقدّم من دلالة (لا أقسم...) وسياقها، والآيات التي تلتها نرى أنّ (لا) نافية للفعل ولا تقوم التوجيهات الأخرى على الرغم من بيان ما يعضدها، لما فيها من حاجة إلى تقدير وافتراض!.
هذا موجز ما يتعلق بأقسام القرآن الكريم.
..................................
المصادر:
1)    أبو جعفر الطوسي (ت460ه): التبيان في تفسير القرآن، 10/190 .
2)    من الآية 57 من سورة الأنبياء .
3)    ابن قيّم الجوزية (ت751ه): التبيان في أقسام القرآن، مكتبة المتنبي/القاهرة، د.ط، د.ت، ص8 . ونقل ابن عقيل في شرح ألفية ابن مالك أنّه "سُمِع أيضاً تالرحمن، وذكر الخفّاف في شرح الكتاب أنهم قالوا: تَحِياتِك، وهذا غريب" 2/15 .
4)    التبيان في أقسام القرآن، ص7 .
5)    ينظر: أبو هلال العسكري (ت395ه): معجم الفروق اللغوية، تحقيق الشيخ بيت الله بيات، مؤسسة النشر الإسلامي/قم، ط1، 1412ه، ص428-429 .
6)    التفسير البياني للقرآن الكريم، دار المعارف/القاهرة، ط7، 1990م، 1/25 .
7)    الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، تحقيق محمد عمارة، دار الشروق/القاهرة، طبعة خاصة لمكتبة الأسرة، 2009م-2010م، الجزء الثاني في تفسير القرآن، ص357 وتكرر في ص424 .
8)    التفسير البياني للقرآن الكريم، 1/166 .
9)    نفسه، 1/166 .
10)    ينظر: - الفراء: معاني القرآن، تحقيق عبدالفتاح إسماعيل شلبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب/القاهرة، د.ط، 2001م، 3/207. – أبو بكر ابن الأنباري (ت328ه): إيضاح الوقف والابتداء، تحقيق محيي الدين رمضان، مطبوعات مجمع اللغة العربية/دمشق، د.ط، 1971م، 1/142.– ابن خالويه (ت370ه): الحجة في القراءات السبع، تحقيق عبدالعال سالم مكرم، دار الشروق/بيروت، ط4، 1981م، ص356.- أبو حيان الأندلسي (ت745ه): البحر المحيط في التفسير، تحقيق الشيخ عرفان العشا حسونه، دار الفكر/بيروت، د.ط، 2005م، 10/343.- ابن هشام الأنصاري (ت761ه): مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق مازن المبارك ومحمد علي حمدالله، مؤسسة الصادق/طهران، ط1، 1378ه، 1/328 .
11)    ينظر: أبو جعفر محمد سعدان الكوفي (ت231ه): الوقف والابتداء في كتاب الله عزوجل، تحقيق محمد خليل الزروق، طبع بمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث العربي/دبي، ط1، 2002م، الفقرة (44)، ص91. وتنظر: عائشة عبدالرحمن: الإعجاز البياني للقرآن ومسائل نافع بن الأزرق، دار المعارف/القاهرة، ط2، 1987م، ص191 .
12)    ينظر: الزمخشري (ت529ه): الكشاف، 6/266. وأبو حيان الأندلسي: البحر المحيط في التفسير، 10/91 .
13)    ينظر: أحمد مختار عمر وعبدالعال سالم مكرم: معجم القراءات مع مقدمة عن القراءات وأشهر القرّاء، عالم الكتب/القاهرة، ط3، 1997م، 5/247، 5/391، ونسبت القراءة إلى الحسن البصري وغيره .

تعليق عبر الفيس بوك