أدب التزفين (ترقيص الأطفال) (3 -5)

أ.د/ إيمان محمد أمين الكيلاني - الجامعة الهاشمية – الأردن

 

           يلحظ أنه لم يذكر من هذا الشعر إلا ما قيل في رجال مشهورين، أو ما قالته نساء مشهورات في أولادهن، أو رجال في أولادهم أو إخوتهم، وغالباً ما كان هؤلاء من قريش في الجاهلية و الإسلام من باب تتبع أطراف الخطاب المُزَفـِّن أو المُزَفـَّن تاريخياً، في محاولة لاستقصاء ما أمكن مما كان يلقَـَنه من قيم أولى مغناة، وما كانت توحيه من مستقبل كان وتحقق، ففي المنمق في أخبار قريش يجمع البغدادي أربعاً وعشرين "تزفينة" لنساء قريش ورجالهم خاصة، وأكثر ما وردنا منه في بني هاشم، ونجد في كتب التراث خمساً وأربعين غير التي وردت في المنمق، فيكون المجموع تسعاً وستين ، وهو كم ليس بالقليل نسبياً، ولو فعل بعض أبناء القبائل ما فعله البغدادي فجمعوا ما فيها من أدب التزفين لوجدنا كماً هائلاً من هذا الموروث الأدبي الثر.
      ويلحظ أن جل ما وصلنا من هذا الفن ينتمي إلى العصرين الجاهلي وصدر الإسلام،   وقليل من العصر الأموي، فلا نجد شيئاً منه -فيما جاءنا ينتمي إلى العصر العباسي وما بعده، إلا القليل من الإشارات التاريخية إلى غلبة لقب عن مُلَقَّـب. ومن شأن هذا البحث العناية بتزفين بني هاشم أطفالهم خاصة .
      ومن ألطف ما وصل إلينا ما زُفِّن به نبينا الأعظم محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم-ولعله عليه الصلاة والسلام أكثر من وصلنا تزفينه لعظمته، ولحرص المؤرخين على استقصاء سيرته العطرة بأدق تفاصيلـها، وما زَفَّن به حفيديه الحسن والحسين- رضي الله عنهما.
       وجدير بالإشارة أن الزبير بن عبد المطلب من أكثر المزفنين من الرجال الذين كثر تزفينهم.
      وعلى الرغم من أنه - صلى الله عليه وسلم- ولد ونشأ يتيماً، فإن الله - عز وجل- ألقى محبته في قلوب أهله ومن حوله، وليس أدل على هـذا من تعدد مزفنيه، ممن دعتهم فراستهم فيه إلى توقع مستقبل غير عادي له جاء على شكل دعاء وتمنٍ.
        والناظر في هذه الأبيات جميعها يلحظ أنها تشتمل على الدعاء له أولاً بأن يعيش،    وأن ينمو ويكبر، وأن يرتقي مراتب العلى و الشرف وأن ينصره الله على أعاديه وحساده. فهذه حليمة- رضي الله عنها- ترقصه بقولها :
                يا رَبِّ إِنْ أَعْطَيْتَهُ فَأََبْقِهِ          وَ أَعْلِهِ إِلى العُلى وَ رَقِّـهِ
                                وَ ادْحَضْ أَباطيلَ العِدا بِحَقِّهِ
إنها لغة تكشف عن نفسية القائلة ومن هنا جاء " ....التعريف الذي أعطاه بوفون (Buffun) لمفهوم الأسلوب: الأسلوب هو الرجل" يحد من معنى هذه الكلمة. ففي خطابه المشهور في المجمع الأدبي يحاول بوفون أن يقابل الأفكار العاملة في مؤلف ما والتي هي من "خارج الإنسان" بالأسلوب الذي هو "الإنسان نفسه " وهذا ما يثبت علاقات مباشرة بين الأسلوب، والأنا المتكلم ."  كما يثبت أيضاً علاقة  المتكلم بالمخاطب، وعلاقة الاثنين بالمجتمع، إن المزفِّن بلا شك يشكل حلقة وصل واعية بين المجتمع وقيمه وبين لا وعي المُزَفَّن الصغير، يشربه أفضل ما فيه وينبهه إلا ضرورة تجنب أسوأ ما فيه، وفي نهاية المطاف تؤدي عادة التزفين هذه مهمتها النفسية في الفرد،كما تؤدي مهمتها في التأثير في اللاوعي الجمعي الذي يتجسد في صورة ثوابت قيمية راسخة، توحد المجتمع وتقوي من أواصره، إنه خلق للوعي من خلال اللاوعي.
ويغلب على هذه  التزفينة ضميران يمثلان العلاقة التي تتمناها المرسلة، فهي تتصدر بالدعاء بـ "يا" النداء، للبعيد مكانة القريب مكاناً وهو "ربي" حيث ضمير المتكلم لا يظهر إلا مرة واحدة، لتنصرف العلاقة بعدها بين الضمير(الفاعل) والضمير (المفعول) وهو العائد على المزَفَّن صلى الله عليه وسلم، والخطاب للرب الذي له الفضل في الإنعام والعطاء، وما بعد "يا رب"هي أنواع من العطاء والنعم التي تسألها الأم لرضيعها، وتكرر ضمائر الخطاب العائدة على الرب لتكون خمسة، مقابل ضمير الغائب العائد على الصغير المزفن، لصغره وضعفه، فهو غياب حال  ووعي، وذاك في الاستعطاف والاسترحام له، وهو من يقع عليه فعل: العطاء والبقاء والإعلاء والارتقاء، والنصر على الأعداء، فهي برقية تلخص أهم ما تطلبه الأم لوليدها ، وما تتمناه، إن المزفن أصغر من أن يوجه إليه الخطاب، لذا هو غائب يتلقى الأفعال من المخاطب، وربما كان الرب هو الفاعل، والمربوب هو المفعول به، المتلقي لنعمه، فجاء عدد ضمائر الغائب خمسة مقابل خمسة للفاعل، وقد استجيب الدعاء فكبر محمد_صلى الله عليه وسلم¬_ فأبقاه ربه، وأعلاه عُلا ما كان لأحد من قبله ولا ينبغي لأحد من بعده، و هي أمنية تمثل لب ما تمنته حليمة لرضيعها ، ودليل ذلك أن جاء الدعاء بصيغة الأمر "أعله" ثم حددت غاية الإعلاء "العلا"  وأعقبته بالعطف بـ "رقه" وهو دعاء على صيغة أمر وهو ارتقاء أعلى من العلا، وقد كان ما تمنت، وإذا تحققت الأمنية الثانية فلابد أن يترتب عليها كثرة الأعداء، وكثرة الأباطيل التي جاءت على صيغة منتهى الجموع "أفاعيل"؛ لتدل على كثرتها الكثيرة وادعائها وابتكارها، فكان الدعاء بصيغة الأمر أيضاً وهو"ادحض" والدحض هو رد الأباطيل على أهلها كلاً وكماً بقوة  وغلبة مع كسر صاحبها،كما أن القافية جاءت بضمير الغائب المتصل العائد على محمد - صلى الله عليه وسلم- أكثر عناية وأهمية؛ إذ هو مناط التربية.

تعليق عبر الفيس بوك