د. صالح الفهدي
أنكرت في لقائها عبر قناةٍ غربيةٍ أنَّ مُجتمعها العربيِّ أصلاً هو عربيُّ الأصولِ في عُمومه، وأنها حرّةٌ في "تهتّكها المحترم" وذلك حقٌّ أصيلٌ لا يصادرُ من حقوقها الإنسانية أو بالأصح (الجسدية)..! جاوبتها شابة أُخرى أغراها ركوبُ موجةِ الشهرةِ بالابتذالِ والتغنّجِ والخواء وهي تنتقدُ الدينَ في سفاهةٍ وخبل..! يردُّ عليهم شابٌ في مُقابلةٍ إذاعيةٍ يتمعجُّ ويتغنّجُ افتخاراً بأنّه اكتشفَ موهبته الغنائية في "بيت الراحة"..! وفي غمرةِ هذا الهرجِ يسمعُ صوتُ شابٍ أخفى ميوله الجنسية، يُعلنُ فرحته التي لا توصف بأنَّ وسيلةً من وسائل الإعلام قد استطاعت أخيراً أن تخترق "التابو" المحصّن لتنفّسَ عليه وأمثالهِ..! تصلُ هذه الضوضاء المتداخلة الهرجِ إلى أحد الأوكار ليتلقفها معربدٌ لا ترى عينه الثقلى الشمس فيرفع عقيرته في وسائل التواصل الاجتماعي أن حال الوطنِ لا تسرّه..!!
يُخبرني أحد الشعراءِ الشباب بأنَّهُ دُعي لمُناسبةٍ ما، وهناك وجدَ نفسه بين كومةٍ من "الحرافيش" الذين يكرَّمونَ واحداً تلو الآخر، بصفتهم نجوماً مؤثرين..!! ثم يتقاطرون على واحدةٍ منهم ليلتقطوا صوراً خالدةً معها، وهي في هيام الأنا مغمورةً بهذا التدافعِ، مسرورةً بالتجمهر القاطع للأنفاس، تلتقطُ لنفسها صوراً تتباهى بها، وتُعلنُ لكل مستفزٍّ، مجاهرٍ بمعارضته لها، أو حقدهِ عليها، بأن "رسالتها" قد وصلت لجماهيرها، وأن الأمرَ تعدَّى المتابعة عبر الحسابات إلى واقعٍ لا يُمكنُ نكرانه..!!
في إحدى المسابقات الفنية المحليَّة رشحت اللجنة إحدى الصور لتحصل على الجائزةِ الأُولى، لم ينتبه أحد إلى الصورةِ ومدلولها الوضيع في بادئ الأمر، إلاَّ أن اللجنة التي يبدو أنها تعرفُ يقيناً الأبعاد الثقافية الجريئة –جرأة الخزي- لتلك الصورة قد كافأت ملتقط الصورة على معناها وليس على جودتها فنيَّاً، لتسهم اللجنة في دعم هذه الاتجاه المنحرف الذي وظّف الفن من أجل الشذوذ ليس عن العادات والأعراف بل عن الفطرة الإنسانية قبل كل شيء..!!
وفي نطاق حديثنا عن الفن نستذكرُ نوعاً من الذين يُطلق عليهم فنانين وليسوا في الأصل سوى مُهرجين مُبتذلين، يتَّخذون من الألفاظ الساقطة وسيلةً للإضحاك، ومن الشماتةِ بالآخرين طريقةً للكوميديا، ومن الحركات المنحطّةِ أدبياً أسلوباً للفكاهة، فحطَّموا حاجزَ الحياءِ الذي يواجهُ في الأصل اضمحلالاً تدريجياً أمام انحسار الفواحش اللفظية والصورية..!
تقبَّل المتفرِّجون سماجتهم، وانحطاطهم على المسرح بالضَّحكِ و"الفرفشة" والجمهور لا يُدركُ بأن أولئك المهرِّجون يقومون بصفعه على وجهه، فيجيبونه بالتصفيق..! ويبتزونه أخلاقياً فيردُّ عليهم بالإعجاب، لقد محقوا كرامته بعد أن أصبح يضحكُ كالأبله على كلمةٍ ساقطةٍ، أو لفظة بذيئة، أو حركةٍ فاحشة، فالإنسان الحرُّ الكريمُ الأبيُّ صاحب الأدبِ والكرامة والعزَّة لا تُضحكهُ الألفاظ الرذيلة، لأنه رفيع القدر، ولا تقهقهُ العبارات المنحطَّة لأنه عزيز النفس، أمّا من أنزلَ قَدْرَ نفسه، وأهانها فقد ضيَّع كرامته، ومن ضيَّع كرامته لم يعدُ له كيانٌ يعتدُّ به، إلاّ اسمٌ أجوف..! يقول المُتنبي: مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ/ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ.
إنَّ أعظمَ ما يجب تربيته في الأبناءِ، وترسيخه في طلاّب العلم عزَّةُ النفس، فمن رخصت عليه عزَّة نفسه ألقاها في أحضانِ الغواية، وأحطَّها مواضع الشهوات، فمن شابٍ عُرضَ عليه ما عُرضَ من الجاهِ والغنى والمنصب مقابل إسقاطَ عزَّةَ نفسه، والتخلِّي عمَّا يتزيَّا به من كرامةٍ وأدب فأبى ذلك منتصراً لعزَّةِ نفسه التي رآها هي العز الأثيل لنفسه ولا عزَّ يعوِّضها إن ضاعت، ولسان حاله يقول مقولة أبي فراس الحمداني: شِيَمٌ عُرِفتُ بهنّ، مُذْ أنَا يَافِعٌ/وَلَقَدْ عَرَفتُ بِمِثْلِهَا أسْلافي.. ومن شابٍ قادته نفسه طامراً بخطاهُ عزَّة نفسه في وحلِ الشهوات، لينال العزَّ الموهوم من مالٍ وثراءٍ وجاه وشهرة وربما لمنصب..!! فالأول وإن هو عاشَ فقير المالِ إلاَّ أنَّه لا يستشعر النَّقص عقدةً تحقِّرهُ في نفسه، قبل أن تُصْغِرهُ في نظرِ غيره، يقول أبوفراس الحمداني:إنَّ الغنيَّ هو الغنيُّ بنفسهِ/وَلَو أنّهُ عارِي المَناكِبِ، حَافٍ، أمّا الثاني: فهو على غناهُ المالي، ومظهره المترف، ووجاهته المُرفهة ينظرُ باحتقارٍ إزاءَ نفسه، واشمئزازٍ نحو طبيعته، ونقصٍ في عميقِ شخصه، ذلك لأنه لم ينل ما نال إلا وقد تخلَّى عن عزَّةٍ وكرامةٍ فلم يعد له ستارٌ يسترهُ لأن الستار الأصيل ليس القماشَ المزخرفَ، المطرَّز، بل هو ستارُ الأنَفةِ والشرف.
إنَّ أشدَّ ما يغفلُ عنه البشر، خاصَّة في مُجتمعاتنا التي يكسلُ فيها العقلُ عن التفكير، هو السؤال، فالأبُ والأم يوفران الإجابات للأبناء كما يشتهيان، والمُعلِّم يلقِّم الإجابات لأفواهِ الطلاّب، والعالم النّحرير يجيبُ عن كل الأسئلة، ولا يجدُ الفردُ –في مجتمعٍ يوفّر عليه جاهزية الإجابات- ما يسأله لأن الإجابات مُعلِّبةٌ وجاهزة..! بل إنه أصبح لا يقوى على السؤال فقد خمدت همّته، وخارت رغبته، ونام عقله..! السؤال الذي يجبُ أن يتعلق به هو: ما هدفي في الحياة؟! هذا السؤال الأكبر الذي يشقُّ لوحده الطريق الوجودي للإنسان الجاد إن كان صاحب بصيرة وقدْر، وخذاقةٍ وفكر، ونباهةٍ ونظر. فإن سأل الإنسان –لمجرد السؤال- عن هدفه في الحياةِ فتح له ذلك مصاريع الأبواب التي لم يكن يرى ما وراءها، أمّا إن عاشَ دون سؤالٍ، فقد عاشَ دون هدف، وحالهُ عندئذٍ كحالٍ ورقةٍ في نهرٍ تتقاذفها الأمواجُ من ضفَّةٍ إلى ضفَّة حتى يبتلعها البحر، أي الموتُ في المآل الإنساني!
وأيُّ مجتمعٍ لا يتأسسُ على قاعدةٍ سميكةٍ من الفكرِ والأخلاقِ، لن يكون لأفرادهِ منطلقات وأهدافٍ أصيلة، بل إنهم يعيشون كالزجاجات الفارغة..! فالنفوس تماماً كالزجاجات إن لم يملؤها شيءٌ ملأها الهواء..!!
ولا ريب أنَّ مجتمعاتنا اليوم هي في أمسِّ الحاجةِ إلى العمل الممنهجِ الذي ينمِّي في الإنسانِ المبادئ والمثل القويمة انطلاقاً من تقدير النفس، واحترامها. فلو أن كلَّ فرد عرف كيف يجعل لنفسه قدرها، لتمسَّك بعزَّته وكرامتها ولمَا تركها طليقةً دون ضابط، ترعى كالبهيمة اليابس والأخضر..! ولمَا رأينا شباباً في مقتبل العمرِ وقد أضاعوا أنفسهم في سفاسف الأمور، ورذائل الأفعال، ولما شهدنا فتياتٍ، متهتكات، ألقين رداء العفَّةِ، وكسرن حاجز الحياء..
إنِّها مسؤوليتنا التي سنُحاسبُ عليها إن نحن تخلينا عنها؛ مسؤوليتنا في أن نعيدَ للشباب تقديرهم لأنفسهم، ونعلِّمهم معنى العزِّةِ والكرامةِ، ومعاني الحريِّةِ المسؤولةِ.. فوالله لا ينفعُ مسؤولٌ عذرٌ أمام الله والتاريخ والوطن إن لم يجتهد لذلك في المؤسسة التعليمية أو الاجتماعية، أو الإعلامية، أو الثقافية، ولا ينفعُ مُربٍ مبررٌ حين يحاسبُ عن تقصيرهِ في تربيته لأبنائهِ.. "كلُّكم راعٍ، وكل راعٍ مسؤولٌ عن رعيته"(حديث شريف).
إنني لم أشهد جهوداً مشهودةً، وبرامجَ ذات أثرٍ تبذلُ من أجلِ تقويم سلوكياتٍ وظواهرَ إلاَّ ما يتطوَّعُ به المتطوِّعونَ أفراداً وجماعات من الغيورين على الوطنِ والأخلاقِ، وهي جهودٌ محدودةٌ لا تكفي إطلاقاً..!
إننا بحاجةٍ إلى مؤسسات ترعى شؤون الشباب ليس الرياضية وحسب بل مؤسسات تُرسي قواعدَ مكينة للشباب في مختلف عناصر التنمية البشرية، وهي المسؤولة عن المسارات العامة التي تحفظُ للشباب السمات الكريمة، والخصال الحميدة، التي هي أساس الشخصية الفاعلة في سيرورة المجتمعات، وحركة التنمية والتطور.