من ملامح لقاء الغرب في القصة القصيرة العمانية المعاصرة (2-3)

د. إحسان اللواتي – جامعة السلطان قابوس


في المقالة السابقة تحدثنا عن تنوّع تجليات لقاء الغرب في القصة القصيرة العمانية المعاصرة ، فقلنا إنه تجلى في السفر الفعلي الجسدي إلى الغرب لأغراض أهمها الدراسة الجامعية والعمل غرضًا ثانيًا وإلى جانب التجليين المذكورين ثمة تجلّ مختلف يتمثل في انطباعات ذهنية راسخة عن الغرب من دون تحقّق سفر إليه، لا جسدًا ولا خيالاً. ويمكن تلخيص أهم ملامح لقاء الغرب في القصة القصيرة العمانية المعاصرة في المحاور الآتية:
 1- الجهل والتوق إلى المعرفة :
برز الجهل ملمحاً بارزاً لدى معظم الشخصيات القصصية المسافرة إلى الغرب ، فهي تبدأ سفرها دون تصور حقيقي واضح الأبعاد والتفصيلات عن الحياة الغربية ، فهذه  الحياة لغز كبير أمامها ، وهي منساقة بلهفة وراء توقها إلى حلّ هذا اللغز وإماطة اللثام عن أسراره وصولاً إلى المعرفة المبتغاة . هذا الملمح يبرز في صورة متضخمة لدى " بدوي " أحمد بن بلال الذي كان يفغر فاه ويتسمر في مكانه مبهوراً بأي شيء كان يراه في لندن ، وكأنه لم يكن يحمل في ذهنه أي تصوّر – قريب أو بعيد – عن الحياة هناك . فمنذ لحظة وصوله ، وجدناه يقول : " لم أشاهد قط في حياتي مثل هذه الأكوام الجاثمة من الطائرات ، بالله هل لهذا المطار وزير واحد فقط ؟ " ( 13 ) .
وإذا كان البدوي قد سافر إلى الغرب وهو فارغ الذهن تماماً – بطريقة تعمد المؤلف أن تكون فكاهية – مما يمكن أن يقابله هناك ، فإنّ " أحمد " في قصة " العودة " لعلي الكلباني كان قد اختلق لنفسه صورة يوتوبية مثالية للغرب جعلته يقول : " كنت أتصور أن الحياة هنا في الغرب هي النعيم ، هي الحياة المثالية التي يجب أن يحياها المتعلمون المتحررون أمثالي " ( 14 ) . ولمّا كان النعيم الغربي مقترناً في ذهنه بالحرية ، بمعناها الظاهري الخادع ، غدا مطلوباً منه أن يتنكر لكل ما من شأنه أن يحول بينه وبين الحرية المزعومة،  حتى المتمثل منه في الدين والقيم والعادات . وبلغ من شدة إلحاح هذه الفكرة على ذهنه أنْ لم يمنع نفسه من تنفيذها وهو في بلاده :
" كنت أهزأ بكل شاب حينما أراه ذاهباً إلى المسجد للصلاة . بصراحة لقد انسلخت وللأسف من كل القيم الفاضلة والعادات الطيبة ، وأهملت زوجتي ، ابنة خالي ، وتشاجرت مع أبي وأمي " ( 15 ) .
ولئن كان الجهل في المثالين المتقدمين من جانبنا نحن الشرقيين ، فإنٌ في قصة " العودة " لخليفة العبري مثالاً مختلفاً ، فنجد فيها أن الغربيين يجهلوننا أيضًا :
" مرات عدة ينسى المحطات التي يرغب في النزول عندها بسبب غرقه في محاولة إقناع هؤلاء الغربيين بأننا لسنا كما يظنون ( أصحاب  جمل وبئر بترول ) ، بل أصبح من بيننا عقول سياسية رفيعة وأصحاب شهادات علمية عليا " ( 16 ) .
إنٌ هذا الجهل من الطرف الغربي يبدو من النص أنه غير متفق في النوع مع ذلك الذي من الطرف الشرقي ، فبينما يظهر الأخير بمظهر الجهل العادي الناتج من قصور أو تقصير في سبيل تحصيل المعرفة الحقيقية بالغرب والحياة الغربية ، يبدو الأول بصورة قد تبعده عن مثل هذه البراءة ، وتجعله أقرب إلى حالة فيها قدر غير قليل من القصد المنطلق من  استعلاء معرفي وحضاري واضح لدى الغرب . فبطل القصة يجد نفسه غارقاً في " محاولة إقناع " هؤلاء الغربيين ، وواضح أنّ " الإقناع " – لاسيما حين يحتاج إلى " غرق في المحاولة " – يشير إلى أنّ الجهل الغربي ليس حالةً من الجهل العادي الذي يزول بالحصول على المعرفة والذي يدفع صاحبه دفعًا إلى تحصيل تلك المعرفة . ثم إنٌ هذا " الإقناع " يستند أساساً إلى أننا مهما كنا مختلفين عن الغربيين في حضارتنا ، فإنٌ هذا لا يعني على الإطلاق أننا نحيا حياةً تختلف كل الاختلاف عن الحياة الغربية المعاصرة :
" مع ذلك فالسواد الأعظم أغنياء كانوا أم فقراء أصبحوا يسايرون الصرخات وعوالم الموضة التي يقذفوننا بها من ولاعة السجائر إلى الكمبيوتر ، حتى السندويتشات والوجبات السريعة بدأ رتم العصر يغلغلها داخل أيام العرب " ( 17 ) .
مثلٍ هذا النقاش المشتمل على توضيح الواضحات يبدو أنه موجّه إلى فئة من الناس صُرفت أذهانها صرفًا متعمدًا عن تقّبل الصورة الواقعية الحقيقية للعرب ؛ لذا يبدو صعبًا إقناعها بأن العرب اليوم يعرفون قيمة العلم والتطور والتمدن . ويتأكد هذا الاستنتاج حين نلحظ رد الفعل " الدائم " لديها :
" لكن رد الفعل دائماً ما يكون التفاتاً لتكملة كتاب أو صحيفة أو منحه ابتسامة مصطنعة " ( 18 ) .      
   إنه ّ رد فعل كاشف عن عدم استعداد أصحابه لتقّبل صورة جديدة للشرق مخالفة للصورة النمطية المألوفة التي باتت راسخة في أذهان الغربيين لكثرة ما قام به الاستشراق من " إقصاء للشرق " حسب تعبير الجابري الذي سعى إلى توضيح الدافع إلى ذلك بقوله : " لمّا كان الوعي بالذات – في الثقافة الأوروبية خاصة – إنما يتم عبر الآخر ، فإنٌ بناء الأنا الأوروبي سيظل عملية ناقصة ما لم تكملها عملية أخرى ضرورية هي عملية تفكيك الآخر ، عملية سلبه أناه وإقصائه وتحويله إلى مجرد موضوع . تلك هي المهمة التي قام بها ما يعرف بالاستشراق ، وهو ذلك النوع من المعرفة التي شيدها الغرب لنفسه عن الشرق بوصفه الآخر الذي لا بد من عزله وتمييزه ليصبح في الإمكان بناء الأنا الأوروبي كذات وحيدة ، كل ما عداها موضوع لها " ( 19 ) .
وإذا كان هذا الدافع حاضرًا حقًا في ذهن بطل خليفة العبري ، فإنٌ من الطبيعي ألاّ يكون جداله مع أهل لندن مصحوباً بإحساس براحة نفسية حقيقية . ولعلّ هذا ما جعل أحد الدارسين يقول : " ولم يكن هذا الطالب مطمئنًا لأهل لندن اطمئناناً كاملاً ، لأنهم كانوا يحملون – في أذهانهم – صورة فيها احتقار للعرب ، لهذا كان يجادلهم ، ويدفع عن قومه كل تهمة " (20).
2- دهشة الاكتشاف:
يترتب هذا المحور ترتباً طبعياً متوقعًا على المحور السالف ، فإذا كان ثمة جهل إزاء الغرب، فإنٌ من المتوقع أن يكون ارتفاع هذا الجهل وتحقق اكتشاف الواقع مترافقًا مع دهشة تستولي على العربي المسافر إلى الغرب للمرة الأولى ، كتلك الدهشة التي طغت على " بدوي " أحمد بن بلال منذ اللحظة الأولى التي وصل فيها إلى لندن ، وظهرت بعدئذٍ في مواقف مختلفة صورت بطريقة هزلية ساخرة ، كما في هذا الموقف مثلاً :
" وما كان من البدوي إلا أن أوقف صديقه خليفة وأشار بيده نحو تلك الفتاه العجيبة الغريبة في ملابسها ، وسارع خليفة إلى إنزال يد البدوي لكي لا يثير ذلك الفتاة المقصودة ويسبب لهما مشكلة ، ثم قال البدوي : إنّ في عمان نوعًا من الدجاج يطلق عليه اسم الديك البصري ، فهل هذه الفتاة من تلك الفصيلة من الدجاج ؟ " (21 ) .
وإذا كان القارئ قد شعر في هذا الموقف بنحٍو من التكلف انساق إليه المؤلف نتيجة حرصه الواضح على إضفاء الطابع الفكاهي على دهشة الاكتشاف لدى البدوي ، فإنّ هذا الشعور سيتعمق حينما يقرأ القارئ مواقف يبدو التكلف أوضح فيها ، مثل موقف البدوي حين حسب طاولات الطعام المغطاة بأقمشة بيضاء " جثثاً لفت بأكفان بيضاء تنتظر من يواريها تحت التراب " ( 22 ) .
وأياً ما كان أمر هذا الطابع الفكاهي المتكلف ، فإنّ الاكتشاف لدى البدوي غلبت عليه الطريقة التقويمية التي تحب التوقف أمام كل ما تراه سلبياً في الحياة الغربية ، حيث " يسخط البطل سالم القادم من البادية إلى لندن على الكثير من ضروب السلوك التي تصادفه في غربته والتي تتجلى في مظاهر الانحراف والعبث ، وتصبح المدينة غولاً كبيرًا يلتهم القيم والمبادئ التي درج عليها " (23 ) . وبلغت طريقة تقويم السلبيات هذه مداها الأبعد حين أخذ المؤلف ينحدر إلى وهدة التقريرية والوعظية المباشرة على لسان البدوي ، كما في قوله : " لا أعتقد مطلقًا أنّ هذا الجو يسمح لأحد أن يفكر بأن هناك أمم ( كذا ) تعصف بها عواصف الشتاء الغاضبة وهي راقدة في العراء ، وأخرى تموت جوعًا بمرأى من الحياة " ( 24 ) .
ولئن كان في الطابع الفكاهي شيء من التسويغ المحتمل للتكلف الذي ظهر جلياً في اكتشاف البدوي ، فإنٌ مثل هذا التسويغ غير وارد في حالة صديقه خليفة الذي بلغ الأمر به إلى درجة أن لا يكتشف الفارق الكبير بين الحياتين الإسلامية والغربية ولا يعي أبعاده الواسعة إلا عندما وجد زوجته الغربية كاثلي توافق على مراقصة شاب غربي دعاها إلى أن ترقص معه ( 25 ) . وحالة خليفة تشبه هنا ، إلى حد بعيد ، حالة أحمد في قصة علي الكلباني " العودة"، فهو أيضًا لم يعِ الفواصل الكبيرة في العادات والقيم إلا بعد أن أخذت زوجته الغربية سوزان تخرج وتعود متى تشاء ومع من تريد ، دون أن تعطي زوجها حق الملاحظة أو الاعتراض على تصرفاتها التي كانت تجدها عادية جداً ( 26 ) . وغريب حقًا أن يتأخر أحمد في اكتشافه ووعيه كل هذا التأخر وهو الذي كان قد أقام في الغرب سنوات من قبل ! رحلة الاكتشاف عند كل من خليفة وأحمد تبدو ، إذن ، رحلة ساذجة تعتمد على تجاربهما الشخصية وحدها ، دون أن يكون لكل ذلك الإرث التاريخي الكبير من العلاقات مع الغرب أي حضور فعلي مؤثر في مواقفهما ، على الرغم من ظهور إشارات تاريخية متفرقة في حنايا القصتين . وهنا يظهر اختلافهما الكبير عن مصطفى سعيد – بطل رواية الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال " – الذي لم يكن " بحاجة إلى أن يتفاعل مع البيئة الجديدة في الغرب ؛ لأنه – كما نعلم – وصل الغرب عبر التاريخ الذي شيّد منه جسرًا امتد فوق البيئة الجديدة ، ومن فوقه كان يتعامل مع تلك البيئة . لهذا نجد مصطفى سعيد لا يدخل في علاقة وطيدة مع أحد ؛ لأن التاريخ كان يقف حاجزاً بينه وبين حاضر البيئة التي يعيش فيها" ( 27 ) .
إنّ أهم السلبيات الغربية التي أولتها الشخصيات القصصية اهتمامها تتمثل في الجريمة والعنف ( 28 ) ، والعلاقات الجنسية المنفلتة ( 29 ) ، وهو اهتمام يتفاوت من كاتب إلى آخر ومن قصة إلى أخرى ، بيد أنه لم يكن الاهتمام الوحيد ، فليس دقيقاً أنّ " كل القصص بلا استثناء لا ترى إلا سلبيات الحضارة الغربية " (30) . إنٌ القصص العمانية لا تخلو من إشارات – وإن ندرت – إلى جوانب إيجابية في الحياة الغربية ، ففي قصة " العودة " لخليفة العبري نقرأ :
" مما لفت انتباهه في هؤلاء حتى الإعجاب احترامهم للوقت ، فحين يضرب لأحدهم موعداً ففي الساعة والدقيقة نفسها يجده أمامه . ليس أثمن من الوقت عندهم ، فنادرًا ما تضيع دقيقة واحدة سدى ، حتى حينما يمارسون بعض الرياضات تجدهم يقرؤون كتابًا ، أثناء ركوبهم لسيارة الأجرة كثيراً ما يلحظهم يقرؤون قصة أو رواية " ( 31 ) .
وإذا كان الحديث عن الإيجابيات هنا منطلقاً من " الإعجاب " الصريح الذي صاحبه يجعل يتوقف أمام الظواهر دون محاولة تحليل أو مناقشة ، فإنٌ الحديث في قصة " أمي ماريا " لصادق عبدواني يبدو أعمق وأدق ، حين تلاحظ سمية شدة إعجاب زوجها سيف بجدية حياة الأسر الأوروبية التي تعمل خارج بيوتها وداخلها دونما احتياج إلى خدم في المنازل ، فيدعوها هذا إلى عرض نظرتها المغايرة التي لا تنكر هذه الإيجابية ، لكنها ترجعها إلى ظروف وأوضاع اجتماعية خاصة تختلف كليةً عما نعهده في المجتمعات الشرقية :
" افهمني يا حبيبي ، أولاً هناك فروق جوهرية بين الأسر الأوروبية والأسر الشرقية . فأنت تعلم أن الواجبات الاجتماعية شبه معدومة في حياة الأسر الأوروبية ، فزيارة الأهل أو الأصدقاء أو زيارة الناس لم تعد جزءًا من حياة الأسر الأوروبية ... " ( 32 ) .

تعليق عبر الفيس بوك