سؤال في التفسير:

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (20)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيدي – جامعة نزوى

 

وسألني تلميذي النجيب: هل لك أن تبيّن لي تصورك عن فواتح السور في القرآن الكريم كلها بنظرة منهجية؟
فقلت له: سأعرض لك ما استخلصته من نظرات فيها، وما وقفت عليه من قراءتي ما قيل إجمالاً، واجتراح رأي، فرتبتها على ست مجموعات:
-    المجموعة الأولى: السور المبدوءة بالحروف المقطعة: (29 سورة).
-    المجموعة الثانية: سور الحمد والتسبيح: (12 سورة).
-    المجموعة الثالثة: ما أولها قسم: (17 سورة).
-    المجموعة الخامسة: ما أولها جملة فعلية: (33 سورة).
-    المجموعة السادسة: ما أولها جملة اسمية: (13 سورة).
ونفصل القول في كل مجموعة بما نراه من مقصود، ولم نعلم أحداً سبقنا قد وزعها على هذه المجموعات، وعلى الوجه الآتي:
المجموعة الأولى:
السور التي تصدرتها الحروف المقطّعة وعدتها تسع وعشرون سورة هي:
البقرة/ آل عمران/ الأعراف/ يونس/ هود/ يوسف/ الرعد/ إبراهيم/ الحجر/ مريم/ طه/ الشعراء/ النمل/ القصص/ العنكبوت/ الروم/ لقمان/ السجدة/ يس/ ص/ غافر/ فصّلت/ الشورى/ الزخرف/ الدخان/ الجاثية/ الأحقاف/ ق/ القلم.
وأرتبها على وفق عدد الحروف المقطعة:
-    ما بدأت بحرف، وهي ثلاث سور: (ص- سورة "ص"./ ق- سورة "ق". /ن- سورة القلم).
-    ما بدأت بحرفين: (ط،هـ- سورة "طه"./ ط،س- سورة "النمل". / ي،س- سورة "يس"./ ح،م: سورة "غافر". /سورة "فصلت"./ سورة "الشورى"./ سورة "الزخرف"./ سورة "الدخان". / سورة "الجاثية". / سورة "الأحقاف").
-    ما بدأت بثلاثة أحرف: (أ، ل، م: سورة "البقرة"./ سورة "آل عمران"./ سورة "العنكبوت"./ سورة "الروم"./ سورة "لقمان"./ سورة "السجدة"./ أ، ل، ر: سورة "يونس"./ سورة "هود"./ سورة "يوسف"./ سورة "إبراهيم"./ سورة "الحجر"./ ط، س، م: سورة "الشعراء"./ سورة "القصص").
ما بدأت بأربعة أحرف:(أ، ل، م، ص: سورة "الأعراف"./ أ، ل، م، ر: سورة "الرعد".
-    ما بدأت بخمسة أحرف: (ك، ه، ي، ع، ص: سورة "مريم").
بلغت الحروف المقطعة - من غير المكررة - أربعة عشر حرفاً تشكّل "نصف أسامي حروف الهجاء"(1). هي: الهمزة، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، ه، ي، وكان مجيء هذه الحروف على حدّ التنصيف مما تواضع عليه العلماء بعد العهد الطويل هو من دلائل الإعجاز(2). وذهب المفسرون في الكلام عليها مذاهب شتّى، وليس هناك من فائدة في إثبات أول من ذكر لطائف فيها: أهو الزمخشري (ت539ه)، أم الباقلاني (ت403ه)، أم غيرهما؟(3).
إذ لم نجد أحداً قدّم مقاربة تنتظم أسرار التعبير بالحروف المقطعة. وتفنن قسم من العلماء – جرياً على عادتهم التعليمية – في جمعها(4) منظومة شعراً، فقال بعضهم:
كنْ واحدٌ عيهقنُ اثنانِ ثلاثةُ صا
                                    دُ الطاءُ أربعةٌ والسينُ خمسٌ علا
والراءُ ستٌ وسبعُ الحاءُ آلُ وَدَج
                                    وميمُــها سبـــعُ عشرٍ تمّ واكتمـــلا

وجمعها آخرون بعبارات من غير تكرار فقالوا:
-    " نصّ حكيم قاطع له سرّ".
-    "ألم يسطع نور حق كره".
-    "لم يكرها نص حق سطع".
-    " طرق سمعك النصيحة".
-    " وصن سراً يقطعك حمله".
-    " على صراط حق يمسكه".
-    " من حرص على بطّه كاسر".
-    " سرّ حصين قطع كلامه".
ولعلك تستطيع أن تؤلف منها جملاً أخرى إنْ أردت! ولم تشع منها جملة! لأنّ أغلب العلماء سلّموا أنها من أسرار الإعجاز.
وقيل في توجيه دلالتها واحداً وعشرين قولاً بسطها الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (ت1393ه)(5)، ونجملها في:
-    أنها أسماء: الله، النبي، الملائكة، القرآن، السور.
-    هي من حساب الجُمّل(6).
-    هي رموز لعبارات وجمل.
-    هي حروف تهجٍ سيقت للتعليم.
-    هي للتنبيه والنداء.
-    هي سرّ الإعجاز والتحدي أو أنها من المتشابه.
-    هي علامة لأهل الكتاب.
-    هي ثناء أثنى بها الله على نفسه.
وكل هذه مقاربات لم تستطع الوصول إلى سرّها، والوقوف على المقصود بها.
ووقفت بآخرةٍ على رأي يفسّر هذه الحروف بما يوافقها بالآرمية(7)، فذهب إلى أنّ:
1)    (ط، هـ) : تعني: يا رجل.
2)    (أ، ل، م) : تعني: صمتاً.
3)    (أ، ل، ر) : تعني: تأمّل أو تبصّر.
4)    (ك، هـ، ي، ع، ص): تعني: هكذا يعظ.
ووجدتُ أنّ علماءنا في اللغة قد قاربوا هذه المعاني فيما نقلوه على الرغم من أنهم لا يعرفون الآرمية وغيرها من اللغات القديمة:
فقال الخليل (ت نحو 175هـ): "وبلغنا في تفسير (طه) مجزومة أنه بالحبشية: يا رجل"(8).
وذكر أبو جعفر الطبري (ت310هـ) في (طه) أقوالاً ورجّح منها أنها تعني (يا رجل)(9).
وذكر الزجاج (ت311هـ) قولين فيها: أنها من فواتح السور، وأنها لغة بالعجمية تعني (يا رجل)(10).
وقال أبو بكر الأنباري (ت328هـ): "ومن قال: طه، معناه يا رجل، لم يقف عليها"(11).
وقال الطوسي (ت460هـ): "وقرأ الحسن بإسكان الهاء، وفسره يا رجل"(12).
وقال الزمخشري (ت529ه): "إنّ طاها في لغة عك في كعنى يا رجل"(13).
وأضاف أبو حيّان الأندلسي (ت745ه) إلى ما سبق فقال: "معنى طه: يا رجل، فقيل بالنبطية، وقيل بالحبشية، وقيل بالعبرانية، وقيل لغة يمنية في عكّ، وقيل في عكل"(14).
وكرر البيضاوي (ت791ه) نسبتها إلى عكّ(15).
ومثل هذا قالوا في (يس) أنّ معناها: يا إنسان، بلغة طييء(16).
أما ما قيل في: أ، ل، م – و، ل، ر، بمعنى صمتاً، أو تأمّل، فمنتزع من قول العلماء "أنّها حروف قُصِدَ منها تنبيه السامع..."(17).
وليس في رأي من فسّر هذه الحروف بالآرامية جديد سوى أنّه حملها على ما تعنيه هذه الحروف بتلك اللغة، ولا ضرورة لهذا التمحل، ولنا عنه مندوحة بما ذكره علماؤنا، إذ يخرج هذه الحروف من عربيتها التي شرّفها الله وجعلها لغة تنزيله، وهذا – إن صح –لا يعدو أن يكون رأياً مضافاً إلى ما قيل في الحروف المقطعة، جدير بالإشارة إليه وذكره.
وللمستشرقين آراء في هذه الحروف تولّى الرد عليها الدكتور محمد غلّاب في كتابه (هذا هو الإسلام) وختم قوله في آرائهم "لا ينبغي لعاقل أن يشتغل بها"(18). وعلّق عليها الدكتور حنفي محمد شرف فقال: "إنها مدعاة للسخرية"(19).
ومن ترف البحث في الحروف المقطعة النظر في صفاتها: مجهورها ومهموسها، معجمها ومهملها، معربها ومبنيّها، تذكيرها وتأنيثها، وما إلى ذلك مما لا يؤدي إلى معناها وسرّ استعمالها.
وسأقف على آراء ثلاثة من المعاصرين ممن عُني بالتفسير:
(1) السيدة الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ (ت1998م)) التي اجترحت منهجاً للنظر في الحروف المقطعة حاولت فيه استقراء جميع السور المبدوءة بهذه الحروف مرتبة على حسب النزول، وهذا ملحظ بياني جميل، ولكنها خلصت إلى ما سبق قوله من أنّها دليل الإعجاز(20).
(2) وسماحة الشيخ أحمد الخليلي (مفتي سلطنة عمان) مدّ الله ظلّه الذي قال: "ولا يضير هذا الإعجاز كونه لم يتكشف للعرب الذين نزل بين ظهرانيهم، فإنّ نداء القرآن ليس قاصراً عليهم، وآياته لا تزال تتجدد بتجدد أطوار الناس، وتتجلى في كل عصر بما يقيم حجته على الخلق أجمعين(21).
فهو يفتح الباب للأجيال القادمة بما تيسر لها من معرفة جديدة أن تنكشف أسرار الحروف المقطعة.
(3) ولأستاذنا الجليل فاضل صالح السامرائي (مدّ الله عمره) اختيار عبّر عنه فقال: "إنّ هذه الأحرف مهما قيل فيها فإنها تلفت انتباه السامع وتجعله يصغي إلى ما يقال بعدها، فكأنها وسيلة تعبيرية تشدّ الذهن"(22).
وأنطلق مما قاله سماحة الشيخ الخليلي لأوضح بين يدي من يتصدى للنظر في سرّ الحروف المقطعة في هذا الجيل أو ما يلحقه مقترحاً يعين من يحاول الكشف عنه يقوم على:
1- النظر في ترتيب هذه الحروف: مفردة ثم ثنائية ثم ثلاثية ثم رباعية ثم خماسية، لسبر غور هذا الترتيب ولِمَ جاءت على هذا النحو؟!.
2- ربط السور التسع والعشرين المبدوءة بتلك الحروف بأسباب نزولها.
3- الإحاطة بما قيل فيها من آراء قديماً وحديثاً.
4- النظر في التراكيب، والتناسب بين الآيات التي وردت فيها تلك الحروف.
5- أن يضع الناظر في حسبانه أن ليس ينتظم السور التسع والعشرين رأي واحد بدليل ما جاء في أول سورة الروم: "ألم، غُلِبَت الروم". إذ وافقت (ألم) حساب الجُمّل في رأي بعض أئمة المغرب (23).
هذا ما رأيته في فواتح السور التسع والعشرين، والله الموفق للصواب.
.....................
المصادر والمراجع:
1-    الزمخشري (ت538ه): الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمد معوض، مكتبة العبيكان/الرياض، ط1، 1998م، 1/13 .
2-    ينظر: الباقلاني (ت403ه): إعجاز القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف/القاهرة، ط7، 2010م، ص44-45 .
3-    ينظر: حفني محمد شرف: إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق، مطبوعات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية/القاهرة، د.ط، 1970م، ص244. وينظر: الشيخ أحمد بن حمد الخليلي: جواهر التفسير- أنوار من بيان التنزيل، طبع دار جريدة عمان للصحافة والنشر، د.ط، 1986م، 2/93-94 .
4-    ينظر: الزركشي (ت794ه): البرهان في علوم القرآن، تحقيق مصطفى عبدالقادر عطا، دار الفكر/بيروت، ط1، 1988م، 1/216 .
5-    ينظر: تفسير التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ/بيروت، ط1، د.ت، 1/205-216 .
6-    حساب الجُمّل: ويسمى أيضاً حساب أبي جاد، أي أن لكل حرف عدداً يعرف به وعلى الوجه الآتي: أ=1، ب=2، ج=3، د=4، ه=5، و=6، ز=7، ح=8، ط=10، ك=20، ل=30، م=30، ن=50، س=60، ع=70، ف=80، ص=90، ق=100، ر=200، ش=300، ت=400، ث=500، خ=600، ذ=700، ض=800، ظ=900، غ=1000
7-    ينظر على موقع (Google): www.youtube.com/watch?v= abaqkgho-ASQ/ موقع لؤي شريف .
8-    كتاب العين، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، باب الهاء مع الطاء مستعمل فقط، 3/347. وينظر: ابن قتيبة (ت276ه): تأويل مشكل القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية/بيروت، د.ط، د.ت، ص309 .
9-    ينظر: جامع البيان في تأويل القرآن، 18/268-269 .
10-     ينظر: معاني القرآن وإعرابه، 3/349 .
11-     الإيضاح في الوقف والابتداء، 2/767 .
12-     التبيان في تفسير القرآن، 7/157 .
13-     الكشاف، 4/63، وينظر: العكبري: إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن، 2/118 .
14-     البحر المحيط في التفسير، 7/309 .
15-     ينظر: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، 2/42 .
16-     ينظر: الكشاف، 5/164 .
17-     ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، 1/212 .
18-     ينظر: محمد غلاب: هذا هو الإسلام، مطبعة الشعب/القاهرة، د.ط، 1959م، ص106-110 .
19-     حنفي محمد شرف: إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق، ص246 .
20-     ينظر: عائشة عبدالرحمن: الإعجاز البياني للقرآن الكريم، ومسائل ابن الأزرق، دراسة قرآنية لغوية وبيانية، دار المعارف/القاهرة، ط2، 1984م، ص160-180 .
21-     جواهر التفسير – أنوار من بيان التنزيل، 2/224 .
22-     على طريق التفسير البياني، دار الفكر/الأردن، ط1، 2011م، 2/5 .
23-     ينظر: الزركشي: البرهان في علوم القرآن، 1/224 .

تعليق عبر الفيس بوك