الصف الأول

 

د. صالح الفهدي

رأيتكم تجتازون الصفوف في المسجد، وتتخطون الرقاب لتصلوا إلى الصف الأول، وكأنما كتب الأجر الأعظم في الصف الأول...! وكنت أرجو أن أراكم في الصف الأول خارج المسجد، لا داخله، فالأجر – إن ظننتم أن في فعلكم هذا أجرا - لمن يبكر في مجيئه، لا لمن يتجاوز رقاب مصليه..!

إن من الأجدى أن نراكم في الصف الأول في مختلف ميادين العمل الاجتماعي تصلون الفقير المعدم بالعون، وتمدون الضائق المعوز بالمساعدة، وتتطوعون بأوقاتكم، وأموالكم لما يسهم في تلبية حاجة المحتاج، ويساعد في عون المعسر، فلا طابت أمة ينام بها فقير جائع، وفيها شبعان متخم..!

من الأجدى أن نراكم في الصف الأول في المستشفيات، والعيادات، والدور المتخصصة بالمسنين، مترددين على خدمة مرضى السرطان وغيرهم فهم في أمس الحاجة إلى مساعدة للعلاج، أو وقفات نفسية تخفف عنه شعورهم المرير بالمرض، وتطمئن قلوبهم بوجود مجتمع يقف ساهرا على رؤوسهم، ويقلل من آلامهم بمواساته لهم، ورعايته بهم.

من الأجدى أن نراكم في الصف الأول تنافحون عن أخلاقكم الرفيعة التي توارثتموها أبا عن جد، وتفاخرتم بها بين سائر الأمم والشعوب، لأنها هي جواز مروركم الأكبر، قبل الجواز الرسمي، فإن تجنى بغاة الشهرة الزائفة على أخلاق المجتمع كنتم في الصفوف الأولى تصدونه عن مبتغاه في تشويه أخلاق فاضلة تربيتم عليه، واتصفتم بها، فردعتموه عن مقاصده، وأرجعتموه عن مساعيه، فأنتم حراس أخلاقكم، وجنود مكاركم، قبل أن تكونوا حماة الحمى.

من الأجدى أن نراكم في الصف الأول تأخذون بيد الشباب إلى ما يعينهم نحو مصالحهم التي فيها مصالح وطنهم، تكرمونهم بالنصيحة، وتمدونهم بالمعونة المالية، فوالله إن أجر مساعدة مالية لشاب يفتح بها مشروعا يخدم به نفسه، وأسرته ووطنه، خير عند الله من عمرة تعتمرونها وفيكم المحتاج والضائق..!!

من الأجدى أن نراكم في الصف الأول وأنتم تردون سهام الفتنة المسمومة من أن تشق جدران التماسك الاجتماعي، والوحدة الوطنية، وتعيدون إلى عقول المخربين صوابهم برقي همتكم، وعلو فكركم، فلا تفتحون لهم ثغرة في جدار، ولا فتحة في دار، وإنما تسدون عليهم الثغور، وترجعونهم خائبين، مهانين دون مقاصدهم الدنيئة..!

من الأجدى أن نراكم في الصف الأول في مواطن النصح الاجتماعي، فإن رأيتم ما يفسد أبناء المجتمع، ويردي من أنفسهم في مهاوي الضياع، هببتم إليهم، فأسعفتموهم بالنصيحة، وأرجعتموهم إلى جادة الطريق، ولم تغضوا عنهم أطرافكم. قومتم اعوجاجهم حتى يعودوا إلى الإصلاح والاستقامة ولم تقفلوا في وجوههم أبواب الأمل والتفاؤل، فما أدراكم لعل أن يكون من بينهم من يعلي لواء وطنه في محفل من المحافل، أو يرقى به في علم من العلوم..!. إنكم لن تصلوا إلى درجة الإيمان الحقيقي إلا بأن ترتقوا بأنفسكم إلى درجة سامية من الأثرة النفسية "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(حديث شريف). فالمجتمعات التي تصمت عن نشوء السلوكيات المشينة، والظواهر المهينة، والأفعال القبيحة سيعمها البلاء، ويدمرها الفساد ذلك لأنهم" كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون"(المائدة/79).

من الأجدى أن نراكم في الصف الأول مع المتنافسين لتحصيل العلم، واقتناء المعرفة، إذ أنتم تنظرون الأمم وهي تسمو بهما إلى مصاف التقدم، ومراتب التطور، فما ارتفعت أمة إلا بالعلم، ولا انهارت إلا به [يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات] (سورة المجادلة: آية 11).

من الأجدى أن نراكم في الصف الأول في ساحات العمل، مشمرين عن سواعدكم، لا متسكعين في المقاهي، أو الطرقات، والسيوح، تحرقون أعماركم في هرج الأقوال، وتوافه الأعمال، بل أفرادا منتجين، لا يقر لهم قرار إلا برؤية وطنهم يتقدم ساعة بعد ساعة، ولا يطيب لهم جفن إلا وقد أنجزوا ما يتصف بالقيمة العالية في مقاييس الإنجاز الحضاري.

من الأجدى أن نراكم في الصف الأول مع المخلصين لأوطانهم، أولئك الذين يرقبون الله في أفعالهم وأقوالهم فيما ائتمنوا عليه من أمانة العمل والوظيفة، فلا يجعلون الوطن فريسة بين أنيابهم، وقد وكلوا أمام الله برعايته، والحفاظ على موارده، ولا يخنون ما عاهدوا الله على صيانة وديعته، ورعاية أمانته، بتقاسم أراضيه، وإهدار مكتسباته، وتبذير أمواله، وخيانة حكومته، والتدليس على شعبه، بل يكونون أمناء، فضلاء، فإن كانوا أكفاء للمسؤولية راعوها، وإن وجدوا في أنفسهم الضعف والوهن سلموها صحيحة غير منقوصة، وهذه والله أفعال لا يطالها إلا العظماء.

من الأجدى أن نراكم في الصف الأول مع الذين يجدون في بحثهم عن الفرص السانحة من خلال ما حبا الله به أوطانهم من نعم، ومما هو متاح في الوجود من سوانح، مستثمرين عقولهم، وقدراتهم، لخدمة أوطانهم، والإنسانية عامة، فالله يقول: "فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور"(سورة الملك/15). 

ليس التعبير عن الإيمان بالتمظهر، وتخطي رقاب الناس، للاستقرار في الصف الأول بالمسجد، فليس في ذلك أجرا، إنما الأجر الحقيقي بنفع الناس، فهنا مقياس التفاضل والتشرف بالحب الإلهي "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إليّ من أن اعتكف في هذا المسجد.. إلى آخر الحديث الشريف".. ديننا العظيم هو ما جاء في تبشير السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها للنبي عليه الصلاة والسلام قبل بعثته حين أتاها خائفا من غار حراء: قد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق...)..

لا يفهم من هذا التقليل من قيمة العبادات لكن الاجتهاد في الشعائر التعبدية لن يكون له قيمة تذكر إن لم يتصل بعلاقة وثيقة بالأخلاق والمعاملات والسلوكيات المجتمعية.. هذا هو الدين لمن شاء أن يفهمه، إن أردنا الارتقاء به، والانتفاع منه، لا رهبانية ولا رياء، ولا تمظهرا.. إنّما تناغم وتجانس بين العقيدة والسلوك، بين العبادات الشعائرية والعبادات التعاملية.