(الاحتواء الصيني للاستراتيجية الأمريكية في آسيا) (2)

ماهر القصير – السعودية
باحث في السياسة الدولية


كما ذكرنا في المقال السابق قامت الصين بتعزيز بهدوء وثبات وسرعة تغلغلها وبسط نفوذها مكثّفة استثماراتها في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وفق مقاربة شاملة لا تقتصر على ضمان مصدر للموارد المنجمية والمحروقات فحسب بل تتجاوزها إلى المساهمة في البنى التحتية للسكك الحديدية والصلب وكل المشاريع العملاقة والإستراتيجية. تماما كأفريقيا والدول العربية، فإن أمريكا اللاتينية، أضحت بالنسبة للحكومة الصينية مجالا خصبا لتطبيق المبادئ الخمس لما يُسمّى “ميثاق بكين”.
أمريكا اللاتينية و الصين:
و ازداد الزحف الصيني باتجاه الفناء الداخلي الأمريكي ما أضحى يهدّد المصالح الحيوية الأمريكية و مجالها التصنيعي والتسويقي والإستثماري، حيث وصف ريجيس سوبرويار، Régis Soubrouillard، الوضع الصيني في تقرير نشره بصحيفة ماريان الفرنسية بأنّ الصين تتصرّف في أمريكا اللاتينية و كأنّ “المكان على ذمّتها: بحيث تسوّي جبلا في البيرو، وتطوّر حقول النفط في فنزويلا، وتحوّل منطقة سيرادو الغابية في البرازيل إلى حقول صويا، وتضع شركاتها النفطية يدها على أكثر من 3 ملايين هكتار من الغابات الأمازونية البكر في الإكوادور”! فالصين تريد الإعتراض على مناطق نفوذ واشنطن في أمريكا اللاتينية والكاريبي، حيث أصبحت فيه أمريكا اللاتينية المزوّد الرئيسي في مجال النفط والنحاس وزيت السوجا إلى الصين هذا ما يؤكّده كاتب الإفتتحايات دينغ غانغ ، Ding Gang، عبر مقالات ينشرها بالصحيفة الصينية الرسمية، غلوبال تايمز، Global Times، بقوله: “بينما تستقرّ الولايات المتحدة في مناطق نفوذ الصين تحذو الصين حذوها وتفعل مثلها”. لم تعرها الصين كل هذا الإهتمام على مدى نصف القرن الماضي، ولكن نهمها المتعاظم للمواد الخام من جهة، وإصرارها على تعزيز فرص قدراتها التنافسية على الريادة ومصادر الطاقة وعوامل القوة، الناعمة والصلبة، والحدّ من مضاعفات “إستراتيجية الإنعطافة” الأمريكية، من جهة أخرى، يدفع بصانع القرار الصيني إلى استبدال استراتيجيات الإنكفاء المتحفّز بنهج الهجوم الكاسح على التخوم. يتغلغل التمدّد الإستراتيجي الصيني، الزاحف من قارة إلى قارة، عميقا داخل المجالات الحيوية الإستراتيجية الأمريكية والأوروبية على حد السواء .
أفريقيا و الصين:
تمكنت الولايات المتحدة من أن تهيمن على النفط في مواقع عديدة وخاصة في أنغولا وموزامبيق، فضلاً عن الغابون ونيجيريا بالدرجة الأولى، ولكن في الوقت نفسه فإن الصينيين دخلوا إلى إفريقيا وهم يقدمون المعونات الاقتصادية ويقومون بالاستثمارات وذلك من أجل الحصول على الطاقة والمواد الأولية من إفريقيا، والتنافس على أشد ما يكون بين الصين والولايات المتحدة في إفريقيا ويتضح هذا أكثر ما يتضح في السودان. حيث تطل القارة الأفريقية على مواقع حاكمة تتمثل في مضيق جبل طارق / قناة السويس مضيق باب المندب رأس الرجاء الصالح بالإضافة إلى الجزر المحيطة بالقارة والمطلة على المحيط الأطلنطي والهندي .
و قد اكتسب الجزء الشمالي والشمالي الشرقي للقارة أهمية في سيطرته على حركة المواصلات العالمية المدنية والعسكرية بين قارات أسيا وأوروبا وإفريقيا , كما اكتسب في المقابل الجزء الغربي والجنوب الغربي أهمية في اتصاله بحركة الملاحة القادمة من الأمريكتين والشرق الأقصى , مما يشكل عامل جذب للكل القوى الدولية الاقتصادية و العسكرية العظمى و تنافس على القارة السمراء.
حيث أن القارة الإفريقية قد انبهرت بنجاح الصين فى رفع أكثر من 200 مليون شخص خارج نطاق الفقر فى العقود الثلاثة الأخيرة، ولذلك بدأت الجامعات الإفريقية فى فتح برنامج للدراسات الصينية فى محاولة للاقتراب من التجربة الصينية. حيث كانت إفريقيا مهمشة بشدة فى التحول السريع فى عملية العولمة, أما حالياً فإنها تختبر فترة نهضة طويلة، كما أنها أصبحت مستعدة لشغل مكان بارز على الساحة السياسية العالمية، ولا توافق الدول الإفريقية على الرؤية الغربية التى تنظر إلى ممارسات الصين بوصفها الاستعمار الجديد فى القارة الإفريقية، بل تنظر إليها كشريك. وفى المقابل، قامت الصين بتقديم العديد من المساعدات إلى القارة الإفريقية، حيث قامت بإلغاء 10 مليارات دولار أمريكى من ديون القارة الإفريقية للصين فى عام 2000، كما قامت بإلغاء الجمارك على 193 بندا من المواد المصدرة إلى الصين من الدول غير المتقدمة فى عام 2003. وعلى النقيض، فإن أوروبا غالبا ما تؤكد التزاماتها تجاه إفريقيا عن طريق الانغماس فى وعود فارغة. كما طمأن رئيس الوزراء الصينى الرئيس الأنجولى "جوسى إدوارد" إلى أن الأزمة المالية العالمية لن تعوق الصين عن تقديم المساعدات للقارة الإفريقية فى تلك الفترة الحرجة. وقام وزير الخارجية الصينى "يانج جيهي" ووزير التجارة "شين ديمن" بزيارة إفريقيا بطريقة منفصلة لتنفيذ التعهدات السابقة وعرض مساعدات جديدة. كذلك، قام الرئيس الصينى بزيارته السادسة لإفريقيا فى فبراير 2009، وقد صرح خلال هذه الزيارة بـ "نحن ننظر للأفارقة كأصدقاء طوال الوقت، وسوف نبقى أخوة طوال الأمد وشركاء طيبين للشعب الإفريقى. والآن فى القرن الجديد، نحن نعمل معا لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية ومواكبة التنمية والتطوير والتجديد".
تقدم القارة الإفريقية للصين المواد الخام والأسواق، وفرص الاستثمار لتبادل رأس المال والخبرة والتكنولوجيا، مما يتيح لإفريقيا الفرصة لكى تنوع توجيه موادها الخام، والحصول على أكبر استغلال لمصادرها الطبيعية. تستورد الصين البترول بطريقة أساسية - فأكثر من ثلث إمدادات البترول للصين تأتى من إفريقيا - كما تستورد المعادن، والأخشاب، وتصدر الصين إلى إفريقيا المصنوعات، التى يكون نصفها تقريبا من الآلات الكهربائية. وقد وفرت إفريقيا الفرصة للشركات الصينية لتكتسب الخبرة عن طريق الانفتاح العالمى، كما قامت بالدعوة لعمل المشاريع وتشغيل العمالة، والتعاون الإدارى فى إفريقيا. ويمثل منتدى التعاون الصينى - الإفريقى - الذى بدأ فى بكين عام 2000 وواصل دوراته حتى عام 2009 - علامة فارقة ترمز إلى نضج العلاقات الثنائية بين إفريقيا والصين، وهو ما ظهر بشكل كاف فى قمة بكين 2006، التى شكلت نطاقا أكبر ومستوى أعلى فى العلاقات الإفريقية - الصينية، حيث حضر هذه القمة كبار قادة 48 دولة إفريقية وممثلوهم، أى نحو أكثر من 1700 شخص.
وحقيقة الأمر أن عددا كبيرا من الشركات الصينية قد ضربت بجذورها فى إفريقيا. وأشار تقرير البنك الدولى الخاص بالاستثمار فى الصين فى يوليو 2008 إلى الأهمية الكبيرة لذلك، وهو ما حقق تحسين البنية التحتية المحلية وسبل العيش. وفى نهاية العام، اجتاز الاستثمار الصينى المباشر فى إفريقيا 5 مليارات دولار أمريكى، يتضمن نحو 1000 شركة بأعمالها من تجارة الأجهزة المنزلية، والصناعات الصغيرة، والمنسوجات، والزراعة، وتجهيز المنتجات الزراعية، والاتصالات، والخدمات الهندسية، وتلك العلاقات الاقتصادية قد ضخت الحيوية فى الاقتصاد الصينى.
كل هذا التقدم الصيني في القارة السمراء على حساب النفوذ الأمريكي و الغربي وهو ما يشرح لماذا تسعى الولايات المتحدة وأوروبا للتعاون مع الصين فى إفريقيا من خلال مبادراتهما. بل إن الاتحاد الأوروبى أطلق فى أكتوبر 2008 وثيقة سياسية تحت عنوان "الاتحاد والصين وإفريقيا، نمضى قدما نحو الحوار الثلاثى والتعاون". كما عبرت الولايات المتحدة أيضا عن أملها فى التعاون مع الصين لمساعدة إفريقيا فى المجالات المتعلقة بالبنية التحتية (الطرق، السكك الحديدية، الكبارى، محطات توليد الطاقة... الخ) والزراعة والرعاية الطبية.
بعد كل هذا التقدم في الساحات الدولية قامت الصين بالالتفاف حول التحالفات المناوئة لها حيث بدأ التحالف بين الصين وروسيا يتخذ اتجاها جديدا بتشكيل منظمة شنغهاي للتعاون منذ عام 1996 كتحالف مضاد لحلف الناتو للتصدي لاختراق الحلف للمجال الحيوي الروسي وتمدده نحو شرق أوروبا. واستهدفت المنظمة منذ إنشائها تشكيل تكتل إقليمي يهدف إلي الرفاهية الاقتصادية لشعوب آسيا الشمالية والوسطي، إلا أن الأهداف الرئيسية للمنظمة كانت ذات طبيعة أمنية وعسكرية، بحيث بدأت دولها الأعضاء بتخفيض عدد قواتها علي حدودها المشتركة. ودفعت توسعات حلف الناتو في شرق أوروبا وآسيا الوسطي روسيا لتحويل شنغهاي من منتدي اقتصادي إلي تحالف شبه عسكري، من خلال سلسلة من المناورات العسكرية بين الأعضاء، وصياغة وثيقة مبدئية للتعاون العسكري، ومكافحة الإرهاب الدولي، والحركات الانفصالية.
و بدأت الصين في إحكام قبضتها علي الملاحة في بحر الصين الجنوبي بإقامة قاعدة بحرية استراتيجية في جزيرة هاينان، وتسيير دوريات بحرية من غواصاتها النووية للسيطرة علي أنشطة الملاحة والصيد واستخراج النفط. ولذلك، أصبح الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة يحظي بموافقة دول آسيوية عديدة باتت تخشي تصاعد المد الصيني، لاسيما مع إقدام بكين علي منع إقامة أي مناورات عسكرية في البحر الأصفر وبحر الصين الجنوبي. ففي يوليو 2010، أجبرت الصين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية علي نقل مناوراتهما المشتركة إلي بحر اليابان، مصدرة تحذيرا رسميا ضد أي أنشطة عسكرية، فيما تعده المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لها، دون إذن مسبق (54). و قامت بتعزيز سيطرتها علي جزر باراسيل، ومطالبتها بضم جزر سبراتلي الغنية باحتياطيات النفط، مما أدي لنشوب مواجهات عسكرية متكررة بين الصين وفيتنام، كان آخرها في 29 مايو 2011، عندما أغرقت الصين سفينة لاستكشاف البترول تابعة لفيتنام (55). يضاف إلي ذلك تصاعد محاولات إثبات السيادة علي تلك الجزر، حيث أقامت الصين هياكل تشمل مهبطا للطائرات، ومنارة في جزيرة سوبي ريف المتنازع عليها مع الفلبين وفيتنام، وأقامت ماليزيا حقولا لطواحين الهواء في جزيرة سوالو ريف، وشيدت فيتنام بعض المنشآت ومهابط للطائرات في جزيرة ساوثويست كاي.

تعليق عبر الفيس بوك