الحياة الفكرية والثقافية في عـُمان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:

اتجاهات الشعر وخصائصه وظواهره (6/11)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

جاء بناء القصيدة لشعراء هذه الفترة متفاوتا في مواضيعه فنجد أن الشاعر قد يبني قصيدة مستقلة بموضوع واحد، وقد يجمع في قصيدته عدة مواضيع ـ وهو الغالب ـ مع ما يربط القصيدة من جو نفسي وشعوري واحد. والملاحظ أيضا أن بعض الشعراء قد وضعوا عناوين خاصة لقصائدهم حددوا من خلالها مسار رحلة القصيدة، مما جعل للعنوان دورا كبيرا في الإيحاء بالوظيفـة الشعريـة ونوع الرسالـة التي يحملها النص. كما أن أغلب مقدمات القصائد ابتعدت عن النمط التقليدي الذي كان يستهل بالغزل والبكاء على الأطلال. أما السمات الفنية فتركزت حول اهتمام الشعراء بالصبغة البديعية التي حاول الشعراء عن طريقها إظهار براعتهم وتفننهم في مجال المحسنات من طباق ومزاوجة وجناس وتورية وغير ذلك. وانصرف همهم إلى الغرام بالبديعيات والمحسنات اللفظية بشكل أو بآخر، مما أفقد الشعر حماسته وروحه الأصيلة، وجعله يدور حول ألفاظ وتعبيرات مصنوعة، فتلاشت الفكرة في زحام الزخرف.

من أمثلة المحسنات اللفظية التي شاعت في الشعر الجناس الذي يعني: تشابه كلمتين في البيت من حيث اللفظ واختلافهما من حيث المعنى، وجاء استخدامه لإثراء الموسيقى الصوتية وإحداث جمال إيقاعي، ومن نماذجه قول أبي نبهان :

وأهدي لهم أهدى بيان من الهدى
وأسنى جمال من جلال له يتلـــو

أهدي ـ الأولى ـ بمعنى أعطي وهي فعل، وأهدى ـ الثانيةـ اسم تفضيل.

ومن المحسنات اللفظية أيضا الطباق وهو الجمع بين ضدين مختلفين مع مراعاة التقابل كالليل والنهار، على ألا يكون هناك تنافر من شاكلة الجمع بين الإسم والفعل. ومن نماذج الطباق ما ورد في قول الدرمكي:

إن كنت ناصحه فذره وما به
فهو الخبير بدائـــه ودوائـــــه

وتجد الطباق في كلمتي "دائه" و "دوائه".

وهناك محسنات أخرى من قبيل التضمين والتمكين والتقسيم  والمقابلة، إلى آخر ذلك، كما ظهرت القوافي المزدوجة في الشعر العماني لإعطاء المرونة اللازمة للقصائد، وهو ما يليق بنظم القصائد الطويلة والحكم والأمثال. وقد نظم الشاعر الدرمكي على هذا النموذج قصيدتين إحداهما في منافع سور القرآن، والثانية في تفسير أسماء الله الحسنى ومما قاله فيها:
فالله اسم أصله الإلــــــــهُ
ولا أرى سمي به إلا هــو
بل حذفوا الهمزة فاستقاما
وأبدلوه ألـِفـا ولامـــــــــا
هناك العديد من الظواهر التي طبعت الشعر العماني في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر الميلادي ومن بينها: تكرار الألفاظ والتناص والالتزام وغيرها. أما التكرار فقد ظهر في الشعر العربي لما يتضمنه هذا النمط من إمكانيات تعبيرية، وما يختزنه من طاقات إيحائية إذا استطاع الشاعر السيطرة عليه واستخدامه في الموضع المناسب. وقد أشار الجاحظ إلى بعض مبررات استخدام التكرار ومنها: تعزيز المعنى، ومخاطبة الغبي، أو الساهي. على ألا يتجاوز الشاعر مقدار الحاجة لإنه بذلك سيخرج من الفائدة إلى العبث. وقد وجدت هذه الظاهرة لدى بعض الشعراء العمانيين سواء كان ذلك على مستوى تكرار الكلمة إسما وفعلا وحرفا، أو على مستوى تكرار العبارة في صيغها وتراكيبها واشتقاقها، كما هو الحال لدى إبي نبهان في قوله:
شموس قلوب العارفين بـــوازغ
ومن حب غير الله هــن فــوارغ
لها في خفيات الخفي مطالــــــع
وفي غرب أعيان العيان مبازغ
وفي سر إشراق النفوس مشارق
لآفاق أوفاق النفـاق دوامـــــــــغ

أما التناص  فمنه أنواع متعددة منها التناص الديني الذي يتم فيه
الاقتباس من القرآن الكريم والحديث النبوي، ومن ذلك ما قاله الدرمكي:

لهفي على شمس العلوم كورت
وإنما نجــومها تكـــــــــــــدرت
وإن أطواد الهدى قد ســـــيرت
حتى العقول للورى تغيـــــرت
كذا العشــار للعلــــــوم عطلت
وكتبهــــــا بحـلهم قد بطلـــــت

وهو بذلك يأخذ ألفاظه من سورة التكوير.

وهناك تناص تاريخي  من أمثلته ما أورده إبن رزيق في قوله:
دع مدح عمرو في الشجاعة إنــه
يزري على عمرو ويفضح عنترا
واعدل به بالفضل ذاك ولا تقــس
بنواله الفضل الكريم وجعفــــــرا
لا زلت يا مولاى تتبـــع سنــــــة
الهادي وتقفوا في الشجاعة حيدرا

كما ظهر في شعر تلك الفترة ما يسمى ب(الالتزام) وهو: " أن يلتزم الناظم قبل الروي ما لا يلزمه من دخيل أو ردف أو حرف أو حركة مخصوصة". وهو من أشق الصناعات اللغوية مذهبا وأبعدها مسلكا، ذلك أن مؤلفه يلزم نفسه ما لا يلزم. والالتزام عدة أنواع منها: أن يكون أول البيت كقافيته، ومثال ذلك قول ابن رزيق:

ثقبــت له قمـــصا ولم تحـــوه يدي
ويحدث لي الأشواق وهو المحادث
فبدأ بالثاء وبه أنهى.

ونوع آخر من الالتزام هو أن يجعل بدايات الأبيات حسب التسلسل الابجدي، ويجعل ذلك الحرف يتكرر في حشو البيت، كقول أبي نبهان:

أواري أواري من لظى حر لوعتي
أناسي أناسي والأســى بي مـــــالك
بوادي البوادي في البوداي مبــددي
وبالي وبالي في المــبارك بـــــارك
جوى بالجوى قلبـي جهولا بجهلـــه
لجمع المســـاوي المسابك سابــــــك
    

إن انتشار ظاهرة الالتزام تدل على سعة المعجم اللغوي عند الشاعر، ذلك أنه كلما زادت قيود القافية والوزن ضاقت خيارات الشاعر اللغوية في معجمه، إلا أنه في المقابل أدى التزام الشعراء ما لا يلزم إلى وضعهم مفردات قلقة في غير موضعها، و أدى إلى تكلف لغوي على حساب المعنى والصورة العفوية أحيانا.

أما المعجم اللغوي لشعراء هذه الفترة فقد ارتبط بتجارب الشعراء ومواقفهم من الحياة ورؤيتهم لها. ولا شك أن للبيئة المحيطة بالشاعر أثرها في ألفاظه ومصطلحاته. وعموما فإن التمايز بين الشعراء والأدباء يعتمد أيضا على ثقافة ذلك الشاعر أو الأديب، فابن رزيق مثلا يمثل في معجمه الخاص به مفردات المدح والغزل ومضامينه كونه عاش في بلاط الملوك مجالسا ومداحا، ونجد لديه أيضا مفردات التاريخ والحضارة كونه مؤرخا وأديبا. أما الشيخ أبو نبهان فيمثل مفردات التصوف والزهد لأنه عالم فقيه جليل. في حين يمثل الدرمكي مفردات الوعظ والنصائح والحكم كونه قاضيا.

ثمة ظاهرة أخيرة يجدر بنا الإشارة إليها في مقام الظواهر الشعرية ألا وهي " النقد الأدبي" الذي وجد آنذاك بشكل فطري يقوم على تذوق النص الأدبي والتأثر ببلاغته، إلا أنها كانت حركة غير محددة بمنهج، ولم تخضع لمقاييس النقد وأصوله، ومع ذلك دفعت هذه الحركة النقدية الشعراء لإجادة قصائدهم والاهتمام بصحة أساليبهم. ومن بين أشهر من قام بعملية النقد الأدبي آنذاك ناصر بن أبي نبهان وابن رزيق. ومن أمثلة النقد أن الشاعر الدرمكي لما قال في نونيته الشهيرة التي مطلعها:

ما بين بابي عـــين سعنة واليمن
سوق تباع بها القلوب بلا ثمـــن

عاب عليه بعض أهل اليمن قوله فيها :
العــود من أبدانهم والمسك من
أردانهم والزعفران من الوجن

ووجه اعتراضهم عدم ملائمة تشبيه الوجن بالزعفران ذي اللون الأصفر الذي هو دلالة على المرض لا الصحة، إلا أن ابن رزيق رد على ذلك بأن المقصود في البيت شذا الزعفران ورائحته الطيبة وليس لونه، واستدل بالبيت الذي يليه من القصيدة. وحين أخذ بعض النقاد على ابن رزيق مطلع لاميته التي أنشأها في تعزية أحد أصدقائه لما سلبه الأعداء ماله وتركوا ابنه. ويقول فيه:
سلامة الحال خير من فنا المال
ففــّرق الهـّم من كثر وإقـــلال

ووجه اعتراضهم أن فناء المال ليس شيئا حسنا حتى تكون سلامة النفس أحسن منه. إلا أن الشيخ ناصر بن أبي نبهان رد عليهم بأن بيت ابن رزيق غاية في الجودة والإتقان لأن كلمة (خير) لها معانٍ ودلالات متعددة، ثم شرح معنى البيت شرحا مستفيضا.

تعليق عبر الفيس بوك