أدب الحرب وسمات التجديد الشعري

"السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق" (2)

د. السيد العيسوي عبد العزيز – ناقد وأكاديميّ مصريّ
مدير النشاط الثقافي بمتحف أمير الشعراء أحمد شوقي

 

في الحلقة السابقة ناقشنا كيف كشف الشاعر السوري عمر هزاع في ديوانه "السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق" عن إحدى أزمات واقعنا، وهي الزيف الديني والاجتماعي والسياسي، عبر نوع من نقد الواقع الصارخ، ما يعني أنه شاعر لن يكتفي بالوقوف على قشرة السطح المتجعدة الباردة بل يود أن ينفذ إلى لب الواقع الحارق ويشق سكته بحرارة الدمع والدم إلى بؤرة الصراع، وهذا شأن الشاعر الحقيقي المتحرك مع الحياة الذي يكتشف اللب تحت كل سطح.
وفي هذه الحلقة نناقش ملمحا آخر من تجربته الشعرية حيث تبدى لنا اعتماد نصوص الديوان على معجم عصري وهو ما يتميز به شعر عمر هزاع، ونستطيع أن نلمس هذه السمة في كثير من نصوصه ما يضفي الحيوية والواقعية على نصوصه، مثل (النظام، ابن الحرام) كي يعبر عن انصهار تجاربه في أتون الواقع.
وهذه السمة تؤدي إلى سمة أخرى في نصوصه ألا وهي توليد إيقاعات ذات نفس عصري وزخم نفسي خاص، فقد تميز النص بإيقاعات عصرية ، فيها من الرشاقة والانطلاق والسخرية والمرارة الكثير مما يبطن أعماق التجربة، ويجعلها ملتهبة عبر الكلمات.
إن العصرية من أهم سمات هذا الشاعر، وهذا شيء يتفق وأدب الحرب، كما يتفق وتميز التجربة، وعلينا أن نقيس تجارب العصر بهذا المقياس، وأن نربط ذلك بمرونة المعجم الشعري وتطويع القالب العمودي لتجاربنا الجديدة، ومن ثم يعد هذا تطويرًا محمودًا، إذ الغالب أن نجد بعض الشعراء يفهمون الشعر العمودي على أنه وزن وقافية، أو معجم قديم وتجارب مجترة، أو محاكاة للقدماء، وكل هذا يقتل الشعر، لأن الشعر هنا يصبح مطية وأداة لا غاية في حد ذاته، أو حتى أداة يحسن استخدامها، وهذا يعيدنا لمناخ قديم كفيل بشحن المتلقي بطاقة سلبية، وما لهذا خلق الشعر، الشعر من أهم الفنون التي تشحننا بطاقة إيجابية خلاقة تجعلنا نقتحم الحياة ونقبل عليها بكل نشاط دون أن ندري، الشعر شرارة الحياة المنطلقة وروحها السباقة إلى كل جديد، وهذا ما نلاحظة عند شاعرنا كسمة غالبة وخاصة في قوله:
الحَربُ أَمرٌ ثانَوِيٌّ
أَوَّلًا:
نَحنُ افتَعَلنا حَربَنا المَزعُومَةْ
نَحنُ اختَلَقنا الحَربَ
لَم نُخلَقْ لَها
مُنذُ اختَرَعنا راءَها المَشؤُومَةْ
فالشاعر هنا يعيد قراءة الوجود بالشعر، لا يصبح الشعر هنا مجرد دفق عاطفي وقالب موسيقي وشكل من أشكال التعبير، بل يصبح فلسفة لغوية وفكرية إبداعية تعيد تشكيل الوجود وفق الرؤية الشعرية، فالحب –وهو أهم كلمة في الوجود- قد تصبح أكثر الكلمات كراهية لو أضفنا لها الراء لتصبح (الحرب) والشاعر يؤمن –وفق القراءة الباطنية للتجربة- أنا خلقنا من أجل الحب والسمو الكوني، ولكنا نخترع ما هو ضد الفطرة الأولى التي خلقنا الله عليها. وكما يلح الشاعر على هذه الجزئية الهامة في عنوان الديوان فإنه يشير لها في عدة أمكنة منه بطرق شتى ومعجم فائق الحساسية، من حيث استخدام كلمة (اختراع) في تشكيل الصورة الشعرية، حيث يصبح الاختراع- وهو أداة تقدم للبشرية- شؤمًا وخرابًا. وهذا ما أقصده بالفلسفة اللغوية، حيث يمكن التفلسف بلغة الشعر ومكوناتها الداخلية في فضاء النص عبر تواصل خاص مع المتلقي كما نرى عند هذا الشاعر, وعند شعراء آخرين، حاولوا هندسة الكون باللغة.
ولم يقتصر الأمر لديه على تصوير الواقع الخارجي وتعريته بما يكشف عن زيفه المستمر، بل حفرت تجربته أيضًا في أعماق اللحظة وتيار الزمن العميق، ومن أبرز التجارب هنا نص قصير له بعنوان "اللدغةُ الثانيةُ بعدَ مُنتصفِ اللَّيلِ"، وهو نص كثيف يمكن للقارئ أن يستشعر من خلاله حجم المعاناة التي يصورها الشاعر انطلاقًا من ذاته مرورًا بشعب وطنه ليصل إلى كل من تجرع مرارة الحرب وقسوتها, وفيه يقول:
يَلَدَغُ العَقرَبُ الثَّانِيَةْ
وَالدُّجى لَدغَةٌ ثانِيَةْ
وَأَنا أَكتُمُ الدَّمعَ
فِي مَحجِرٍ؛ عَينُهُ آنِيَةْ
أَيُّها العِيدُ...
طالَتْ
أَما آنَ أَن تَنقَضِي الفانِيَةْ؟!
وهو من ومضاته المشعة، حيث يبرز أزمة الإحساس بالزمن، وكلنا نملك هذه الأزمة، ولكن لكل منا زمانه الخاص وأزمته الخاصة، ومن هنا جسد الشاعر العام من خلال الخاص، واستخدم لذلك رمزًا لا شعوريًّا هو عقرب الساعة، حيث تتحول حركة عقرب الساعة إلى حركة مميتة، ما يعني أن الشاعر يموت آلاف المرات بفعل حركة هذا العقرب نحوه.
كما استخدم الشاعر وقتًا أثيرًا يجسد المكان حوله وهو الساعة الثانية، ولا شك أنها الثانية بعد منتصف الليل، بدليل كلمة (الدجى). وحتى لو لم توجد كلمة الدجى فإن المناخ النفسي للنص وروح الوجود ثقيلة الوطء تشعرنا بهذا الوقت المتأخر من الليل.
وتزداد الأزمة حين نجد عقارب أخرى تتعاضد على الساهر/ الشاعر : (وَالدُّجى لَدغَةٌ ثانِيَةْ)
وهنا يواجه الشاعر الحركة الزمنية بحركة نفسية معضدة بسكون في نفس الوقت:
(وَأَنا أَكتُمُ الدَّمعَ
فِي مَحجِرٍ؛ عَينُهُ آنِيَةْ)
إنها حركة الدمع بينما هو ساكن في مكانه، والعين تتحول لآنية ما يعني انسكاب الدموع، هنا تنتاب الإنسان الوساوس، ويتوحد مع نفسه أكثر، وتكثر الخواطر.
ولقد جسد الشاعر كل ذلك بكلمات قليلة، استخدم فيها خاصة سحرية في الشعر تغني عن كثير من الكلمات، ألا وهي الإيحاء.
ولكي يقوم الشاعر بالإيحاء عليه أن يقوم بأشياء عديدة، من بينها أن يشبع الكلمات من روحه، وأن يوفر للكلمات ذلك السياق المفعم بالمشاعر كما لو كانت إطارًا تتكاثف حوله، وأن يختار الكلمات ذات الطاقة الرمزية العالية، وأن يكثف من الاستخدام الشعري، حيث تتحاور الكلمات ولا تصبح مجرد كلمات متراصة صامتة هامدة، وغير ذلك، وكل ذلك فعله الشاعر بنجاح لافت في هذه المقطوعة الصغيرة.
كما أن الشاعر رفع من شاعرية هذه المقطوعة وجعلها متفجرة حينما لجأ إلى المفارقة، فهناك عيد، يستدعي المشاعر السارة، ولكنه يهل عليه وهو في قمة الحزن، ما يضاعف من أزمة الإنسان بالزمن. يضاف إلى ذلك التضمين والتناص، ففي قوله :
(أَيُّها العِيدُ...
طالَتْ
أَما آنَ أَن تَنقَضِي الفانِيَةْ)
قد يستدعي التركيب كلمات من قبيل القاضية، الآزفة إلخ، ولكنه يستخدم هذا وأكثر حين يقول (الفانية) ولربما تشير إلى الدنيا (الفانية). فالشاعر يريد تحت وطأة الهموم والأحزان أن يعجل بمصيره، ويفجر لحظة الزمن.
ورغم كل ذلك السكون لا ننسى لحظة التمرد، وهي من السمات الخاصة بالشاعر نجدها طافرة عن كل شبيه، فمن البداية منذ مطالعة العنوان : "اللدغةُ الثانيةُ بعدَ مُنتصفِ اللَّيلِ" نجد الشاعر يتلاعب باللغة، كما يتلاعب الزمن به، كما لو كان الأمر تعويضيًا، أو نوعًا من العناد،أو ردة فعل لا شعورية لذات متأبية.

تعليق عبر الفيس بوك