لهذا تطورت ماليزيا

 

علي بن مسعود المعشني

يشغل النموذج الماليزي التنموي الكثير منِّا إلى درجة الافتتان، ويُعزى هذا النهوض الكبير إلى شخص رئيس الوزراء الشهير مهاتير محمد والذي ارتبط اسمه بنموذج بلاده التنموي العصري في غضون ربع القرن المنصرم. ونحن اليوم في السلطنة نستضيف كثيرًا المذكور حيث يحلم البعض منِّا بنقل "عدوى" التجربة الماليزية والاستفادة منها دون وعي من أولئك بظروف وممكنات ماليزيا والتي ساعدت زعيمها مهاتير محمد في تحقيق هذه القفزة التنموية النوعية لبلاده.

في عام 2000م استضاف مجلس الشورى العُماني ندوة موسعة بعنوان "تبسيط الإجراءات في القطاع الحكومي" حضرها جميع المعنيين وعدد كبير من المختصين من داخل السلطنة وخارجها وخرجت الندوة بتوصيات شاملة وعميقة واستعرضت خلال أيامها تجربتي كل من ماليزيا وسنغافورة في الإدارة والتنمية، والغريب والملاحظ لي ولغيري من حضور الندوة أن الإجراءات الحكومية ازدادت بيروقراطية وأشبعت المزيد من التعقيدات بعد تلك الندوة وكأن محاور الندوة وتوصياتها رمت وهدفت لذلك وليس العكس!!

ومنذ تلك الندوة وبعدها عُقدت عشرات الندوات والمؤتمرات وورش العمل لذات المضمون والهدف وهو تطوير الأداء الحكومي وتبسيط الإجراءات ومكافحة الروتين والبيروقراطية قدر المستطاع ولكن واقع الحال يشي بعكس ذلك.

اليوم نحن على أعتاب مرحلة جديدة في التنمية والإدارة وهي مرحلة الحكومة الإلكترونية، هذه الحكومة التي نحلم بتطبيق ثقافتها دون أن نتجاوز مثالب الحكومة الورقية وعقلياتها، وبالتالي لا أعتقد أنها ستكون نعمة علينا وإضافة إيجابية لبلدنا بقدر ما ستكون عبئاً إدارياً جديدا ومعوقا تنمويا كبيرا لأننا حلمنا بالتقنية وسعينا لها بمعزل عن تأهيل العقول المواكبة لها والمتشبعة بثقافة الإدارة العصرية ومتطلباتها، كما أننا لم نحسب حساب – وعلى ما يبدو – بأن تطبيق الحكومة الإلكترونية يعني الاستغناء عن ثلاثة أرباع الكادر الوظيفي الحالي ومستقبلًا في القطاع العام فالتقنية كفيلة بكل شيء بعد ذلك وماكان يقوم به عشرة موظفين وأكثر ربما ستتكفل به التقنية وبوجود عنصر وظيفي واحد لا أكثر، وهذا سيضعنا في تحدٍ كبير ومأزق جديدٍ في التوظيف واستيعاب مخرجات التعليم في ظل غياب التخطيط الجاد والحيوي لاستغلال العنصر البشري الوطني في دولة الرعاية التي عهدناها وفي زمن الحكومة الإلكترونية. لهذا تؤخر العديد من البلاد في العالم تطبيق الإدارة الإلكترونية في قطاعات أو معاملات بعينها حرصًا منها على تجنب تفشي البطالة وآثارها السالبة على الاقتصاد والتنمية والمجتمع.

حين نعود إلى التجربة الماليزية وسر نجاحها دون الغوص في التفاصيل الدقيقة لها رغم أهمية ذلك كون الحديث هنا عبر مقال وليست دراسة تحليلية، فيمكننا الارتكاز على نقاط محورية بعينها تتمثل في البعد التاريخي للتعليم الحديث في ماليزيا (فجامعة مالايا مثلًا تأسست عام 1949م وتحتل المرتبة الـ 35 عالميًا وهي الجامعة الأقدم بماليزيا) والتناغم بين عدد السكان(31 مليون نسمة) والمساحة (329 ألف كلم) والتنوع العرقي والثقافي بين مكونات الشعب (70%من الملايو و30% من القوميات الصينية والهندية وأقليات صغيرة أخرى) ثم وجود منافس تاريخي طبيعي يتمثل في النموذج السنغافوري المجاور. يضاف إلى ذلك المحيط والمجال الحيوي الخلاق لماليزيا والمتمثل في النمور الآسيوية والصين والتي تتنافس وتتحفز وتتوق لكل جديد وتموج بالأفكار والعمالة الماهرة الرخيصة.

فمن المعلوم والمؤكد أن البعد الحضاري للقوميتين الصينية والهندية في المجتمع الماليزي أثرتا كثيرًا التجربة الماليزية وساهمتا بقوة في تحقيق وتطبيق التنمية والنهوض السريع لخبراتها التراكمية التاريخية في التجارة والنهوض الاقتصادي ومرونتها العالية في استيعاب الجديد والتكيف السريع معه مقارنة بمجتمع الملايو الأصلي والذي تعامل مع النهوض بعقلية الفلاح التقليدي والذي يهاب الجديد بطبعه اللازب ويقلب الرأي طويلا في استيعابه والتعايش معه، من هنا لم يغب عن ذهن العبقري مهاتير محمد هذه الفجوة الحضارية والثقافية الكبيرة بين أبناء جلدته وشركاء الوطن من العرقين أعلاه، فلجأ إلى سن قانون التمييز الإيجابي والذي ينص صراحة على تعظيم حقوق ومكاسب أبناء الملايو ويحميهم من التهميش على المديين القريب والبعيد.

قانون التمييز الإيجابي:

التمييز الإيجابي قد يطبق لصالح الأقلية أو لصالح الأغلبية، ففي أمريكا مثلا طبق لصالح الأقليات أما في دولة مثل ماليزيا فقد صرح مهاتير محمد رئيس الوزراء السابق أنه يطبق التمييز الإيجابي لصالح الأغلبية المسلمة لأنها الأقل ثراء ومشاركة في النشاط الاقتصادي، فالنهضة هناك قائمة على أكتاف الماليزيين من أصول صينية وهم ليسوا بمُسلمين. والتمييز الإيجابي قد تستفيد منه أقلية ليست ذات كفاءة أو أقلية تتمتع بالكفاءة والجدارة السياسية والاقتصادية ولكن هناك أوضاع مانعة تحول دون مشاركتها .(ويكيبيديا)

قبل اللقاء:

يحدثني صديق قائلًا: كنت في يوم من الأيام في الجامعة وكان علينا اختبار مادة اختيارية في التجارة حيث طلب منِّا الأستاذ دراسة جدوى لمشروع صغير لا يتعدى رأسماله (30) ألف دولار، فوضع كل منِّا الدراسة المناسبة لعدد من المشروعات وسلمناها للأستاذ بانتظار النتائج. وبعد اطلاع الأستاذ على أوراقنا نظر إلينا وقال: جميعكم راسبون ونتائجكم (صفر)!! فكانت الصدمة لا توصف لنا، ثم قال: جميعكم فكر بتجهيز المشروع وجميعكم أهمل ميزانية التشغيل للمشروع وبالنتيجة الحتمية فالمشروع خاسر لا محالة وهذه النقطة من أكبر عوامل خسارة المشروعات في منطقة الخليج كما لاحظت حيث التركيز على تجهيز المشروع وإهمال توفير ميزانية لتشغيله لمدة عام على الأقل والنتيجة فشل المشروع وتعثره من شهره الأول وبداية تآكل رأسماله، وهذه من أبجديات النشاط التجاري وبديهياته. فالمشروعات التجارية كالأشجار المثمرة نسقيها ونهتم بها لسنوات حتى تبدأ في الإثمار والإنتاج.

 

مَا كُنتُ أعْلمُ أنَّ العِشقَ يَا وَطَني..... يَومًا سَيَغْدُو مَعَ الأيَّامِ إدمانَا

عَلَّمْتَنا العِشْقَ حَتَّى صَارَ في دَمِنَا..... يَسْرِي مَعَ العُمْرِ أَزْمَانًا فَأزْمَانَا

عَلَّمْتَنا كَيْفَ نَلْقَى المَوْتَ فى جَلدٍ..... وكَيْفَ نُخْفِى أَمَامَ النَّاسِ شَكْوَانَا

هَذَا هُوَ المَوْتُ يَسْرِى فى مَضَاجِعِنَا..... وأَنْتَ تَطْرَبُ مِنْ أنَّاتِ مَوْتَانَا

هَذَا هُوَ الصَّمْتُ يَشْكُو مِنْ مَقَابِرِنا..... فَكُلَّمَا ضَمَّنا صَاحَتْ بَقَايَانَا

بَاعُوكَ بَخْسًا فَهَلْ أَدْرَكتَ يَا وَطَنِي..... فِى مَأتمِ الحُلمِ قَلبِى فِيكَ كَمْ عَانَى

(الشاعر/ فاروق جويدة)

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com