سؤال في التفسير:

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (19)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيدي – جامعة نزوى


كانت ملاحظة تلميذي النجيب حول قوله تعالى: ﴿أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون﴾ وسألني: ما المعنى الذي تؤديه (أم) وتكرارها خمس عشرة مرة في سورة الطور؟
قلت: أولاً: لا بد من ذكر الآيات الخمس عشرة:
قال تعالى:(أم يقولون شاعر... من الآية 30 منها)، (أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون. الآية 32 منها)، (أم يقولون تقوّله... من الآية 33 منها)، (أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون. الآية 35 منها)، (أم خلقوا السموات والأرض... من الآية 36 منها)، (أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون. الآية 37 منها)، (أم لهم سلّم يستمعون فيه... من الآية 38 منها)، (أم له البنات ولكم البنين. الآية 39 منها)، (أم تسألهم أجراً... من الآية 40 منها)، (أم عندهم الغيب... من الآية 41 منها)، (أم يريدون كيداً... من الآية 42 منها)، (أم لهم إله غير الله... من الآية 43 منها)
وثانياً: نذكر ما قاله اللغويون والنحويون في (أم) ومعانيها:
قال الخليل (ت نحو 175هـ): "أم حرف استفهام على أوله، فيصير المعنى كأنه استفهام بعد استفهام، وتفسيرها في باب (أو)... ويكون بمعنى (بل)، ويكون (بل) الاستفهام بعينها كقولك: أم عندكم غداً حاضرٌ؟ أي: أعندكم؟ وهي لغة حسنة، ويكون (أم) مبتدأ الكلام في الخبر، وهي لغة يمانية، يقول قائلهم: هو من خيار الناس، أم يطعم الطعام، أم يضرب الهام... وهو يخبر" (1).
ونُقِلَ عن الخليل قوله: "ما في سورة الطور من ذكر (أم) فكلّه استفهام، وليس بعطف"(2).
وجاء في كتاب سيبويه (ت نحو 185ه): "أما (أم) فلا يكون الكلام بها إلا استفهاماً، ويقع الكلام بها في الاستفهام على وجهين: على معنى أيّهما وأيّهم، وعلى أن يكون الاستفهام الآخر منقطعاً من الأول" (3).
وجاء: "أم يقولون افتراه، فجاء هذا الكلام على كلام العرب، قد علم الله ذلك من قولهم، ولكن هذا كلام العرب ليعرفوا ضلالتهم"(4).
ورأى الفراء (ت207ه) أنّ (أم) تؤدي ثلاثة معاني:
(أ‌)    العطف الذي يسمّيه (ردّاً) فقال: "وقوله: أم تريدون أن تسألوا رسولكم، (أم) في المعنى تكون ردّاً(5).
(ب‌)    الاستفهام: "ومن ذلك قول الله: (ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين، أم يقولون افتراه)(6)، فجاءت (أم) وليس قبلها استفهام فهذا دليل على أنها استفهام مبتدأ كلام قد سبقه"(7).
(ت‌)    بمعنى بل: "وربما جعلت العرب (أم) إذا سبقها استفهام لا تصلح أيّ فيه على جهة (بل)..."(8).
فذكر الفرّاء أنّ (أم) تأتي استفهامية حين لا يسبقها استفهام، وهذا ما نريده.
ونُسِبَ إلى أبي عبيدة (ت210ه) أنّه قال عن (أم) قد تأتي بمعنى الاستفهام المجرد(9)، وليس هذا هذا صحيحاً، فقد قال أبو عبيدة في (مجاز القرآن) تعليقاً على قوله تعالى (أم يقولون تقوّله...) "مجازها: بل يقولون، وليست بجواب استفهام، قال الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط    غلس الظلام من الرباب خيالا
لم يستفهم إنما أوجب أن رأى بواسط... (أم تأمرهم أحلامهم بهذا...) بل تأمرهم أحلامهم(10). وكلام أبي عبيدة واضح جلي فلا أدري كيف وقع هذا الوهم!.
ومثل ما سبق نُسب إلى أبي زيد الأنصاري (ت215ه) أنه قال بزيادة (أم) في قوله تعالى (أم يقولون افتراه)(11)، ولم أقف على رأي أبي زيد هذا في كتاب آخر.
وذهب ابن قتيبة (ت276ه) إلى أنّ (أم) بمعنى ألف الاستفهام، معززاً ذلك بآيات منها من سورة الطور(12).
وفصّل آخرون في معاني (أم):
فمنهم من قال: "أمّا أم فتكون على ضربين"(13)، ومنهم من ذكر أنّ "أم يكون لها في الكلام ثلاثة مواضع"(14)، ومنهم من زاد على ذلك فقال: إنّ "أم حرف مهمل له أربعة أقسام"(15).
وكرر آخر هذا فقال: إنّ "أم على أربعة أوجه"(16).
وما يهمنا من هذا كله رأي الخليل في (كتاب العين) أنّ (أم) حرف استفهام وعدّها لغة حسنة، فضلاً عمّا نُقِلَ عنه أنّ جميع ما في سورة الطور من ذكر (أم) استفهام وليس بعطف، وهذا ما نذهب إليه ونفضله.
أما المفسرون الذين وقفوا على دلالات (أم) في سورة الطور، فقد داروا في فلك ما ذكره أهل اللغة من معانيها:
فالطبري (أبو جعفر محمد بن جرير، ت310ه) قال: "وقوله: (أم يقولون شاعر...) يقول جلّ ثناؤه: بل يقول المشركون..."(17)، وفي قوله: (أم تأمرهم أحلامهم... أم هم قوم طاغون... يقول تعالى ذكره: أتأمر هؤلاء المشركين أحلامهم..."(18). فقصر معناها على ضربين: بل، والهمزة!.
والطوسي (أبو جعفر محمد بن الحسن ت460ه) لم يخرج عمّا قاله الطبري لكنّه عقّب بآخره فقال: "وكلّ الأمور المذكورة بعد (أم) إلزامات لعبدة الأوثان على مخالفة القرآن"(19). فألمح إلى أنّه يرى فيها استفهاماً خرج إلى معاني.
والراغب الأصفهاني (أبو القاسم الحسين بن محمد، ت502ه) قال: "وأم إذا قوبل به ألف الاستفهام فمعناه أي نحو: أزيد في الدار أم عمرو؟ أي أيهما؟
وإذا جُرّد عن ألف الاستفهام فمعناه بل نحو (أم زاغت عنهم الأبصار)(20) أي بل زاغت(21).
والكرماني (محمود بن حمزة، ت505ه) قال: "وقوله تعالى (أم يقولون شاعر) أعاد (أم) خمس عشرة مرة، وكلها إلزامات ليس للمخاطبين بها جواب"(22). فكانت عبارته أوضح من عبارة الطوسي!.
والزمخشري (أبو القاسم محمود بن عمر، ت529ه) قال: "(أم خُلِقوا) ... وقيل أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب؟ وقيل: أخلقوا من غير أب وأم؟ (أم عندهم خزائن) الرزق... أو: أعندهم خزائن علمه؟(23).
وابن عطية (أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر، ت546ه) قال: "وأم المتكررة في هذه الآية قدّرها النحاة بألف الاستفهام، وقدّرها مجاهد بـ (بل)، والنظر المحرر في ذلك أنّ منها ما يتقدر بـ (بل والهمزة) على حدّ قول سيبويه... ومنها ما هي المعادلة... إلا أن العبارة بأم خرجت مخرج التوقيف والتوبيخ، وحكى الثعلبي عن الخليل..."(24). فجمع كلّ ما قيل في (أم) من سابقيه!، والعكبري (أبو البقاء عبدالله بن الحسين، ت616ه) قال: "وأم في هذه الآيات منقطعة"(25)، والقرطبي (أبو عبدالله محمد بن أحمد، ت671ه) قال: "قوله تعالى (أم يقولون شاعر) أي بل... فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث... قوله تعالى (أم خلقوا من غير شيء) أم صلة زائدة والتقدير أخلقوا من غير شيء... (أم هم الخالقون) أي أيقولون... أم لهم سلّم أي أيدعون... أم له البنات... أي أتضيفون"(26). تأمل الاضطراب في ذكر هذا كله!، وأبو حيان الأندلسي (أبو عبدالله محمد بن يوسف، ت745ه) قال: "قيل: أم بمعنى الهمزة أي أتأمرهم، وقدّرها مجاهد ببل، والصحيح أنها تقدّر ببل والهمزة"(27)، والبيضاوي (أبو سعيد عبدالله بن عمر، ت791ه) قال: "(أم خلقوا السموات والأرض) وأم في هذه الآيات منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار"(28)، والآلوسي (أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي البغدادي، ت1270ه) قال: "وقعت أم مكررة خمس عشرة مرة..."(29). ثم قال: "(أم لهم إله غير الله)... (أم) في كل ذلك منقطعة، وهي مقدرة ببل الإضرابية... وبالهمزة وهي للإنكار، وهو ما اختاره أبو البقاء وكثير من المفسرين، وحكى الثعلبي عن الخليل أنها متصلة والمراد بها الاستفهام"(30). فكأن الآلوسي يركن إلى ما قاله الخليل!، وابن عاشور (محمد الطاهر ابن عاشور، ت1393ه) نقل معاني (أم) ممن سبقه، لكنّه اعتمد معنى واحداً هو كونها للإضراب مثل (بل) ثمّ فصّل في دلالة الإضراب: إضراب انتقالي من استفهام إنكاري مقدّر بعد (أم)"(31). فلم يخرج عمن سبقه!.
وأخيراً وقفنا على ما خلص إليه عبد العظيم إبراهيم المطعني في كتابه (التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الكريم) فوجدناه ينقل ما قاله المفسرون ثم ينتهي إلى خلاصة فيقول: "والخلاصة: إنّ الاستفهام الأول لم يبيّن أحد ما المراد منه سوى الإمام البيضاوي الذي حمله – وهو محق – على الإنكار أصالة، والتوبيخ ردفاً..."(32).
ثم يتناول الآيات التي تصدرتها (أم) آية آية محاولاً البحث عن (أسرار النظم وبلاغياته) قبل كل آية ثم يتبعها بعنوان (الدراسة والتحليل) ليوجّه (أم) على وفق ما ذهب إليه المفسرون فكان يقول مثلاً: "والذي نراه – ونكاد نجزم به – أنّ بعض مواضع (أم) في هذه السورة لا يصلح معها الإنكار ولا التقدير...". ومرد هذا الحكم لأنّ الباحث لم يجزم معنى (أم) على ما نصّ عليه الخليل. وبعد: فننهي – بعد هذا العرض – إلى ما يأتي:
(1)    وقفنا على آراء أشهر اللغويين والنحويين في (أم) .
(2)    اخترنا من المفسرين ما نظنّ أنهم يمثلون مذاهب متعددة في التفسير.
(3)    إنّ مقولة الخليل في (أم) هي ما ينبغي أن يتلاقفها المفسرون ليمنحوا ما بعدها من الآيات الدلالة المجازية المناسبة لكل سياق.
(4)    إنّ الاستفهام بـ (أم) بلا تقدير يخرج إلى معاني الإنكار والتوبيخ والتجهيل والتعجيب... إلخ.
وكما سألتني – يا ولدي – سأسألك الآن: فهل فيما عرضته مَقْنع؟
...........................
المصادر والمراجع:
1)    كتاب العين، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، منشورات الأعلمي للمطبوعات/بيروت، ط1، 1988م، باب اللفيف من الميم (أم)، 8/435.
2)    ينظر الثعلبي (أبو إسحاق أحمد ت427هـ): الكشف والبيان عن تفسير القرآن، تحقيق أبي محمد ابن عاشور، دار إحياء التراث العربي/بيروت، د.ط، 2002م، 9/132.
3)    الكتاب، تحقيق عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي/القاهرة، ط2، 1982م، 3/169.
4)    الكتاب، 3/173 .
5)    معاني القرآن، تحقيق أحمد يوسف نجاتي ومحمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1980م، 1/71 .
6)    الآية 3 من سورة السجدة .
7)    معاني القرآن، 1/71 .
8)    نفسه والموضع نفسه.
9)    ينظر ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق مازن المبارك ومحمد علي حمدالله، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر/طهران، ط1، 1378ه، 1/66.
10)    مجاز القرآن، تحقيق فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي/مصر، د.ط، 1988م، 2/233 .
11)    ينظر المرادي: الجنى الداني في حروف المعاني، تحقيق فخرالدين قباوة ومحمد نديم فاضل، دار الآفاق الجديدة/بيروت، ط2، 1983م، ص206- 207 .
12)    ينظر: تأويل مشكل القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، تاريخ المقدمة 1973م، ص546-547.
13)    أبو البركات الأنباري: أسرار العربية، تحقيق محمد بهجة البيطار، منشورات المجمع العلمي العربي/دمشق، تاريخ المقدمة 1957م، ص305 .
14)    أحمد عبدالنور المالقي: رصف المباني في شرح حروف المعاني، تحقيق أحمد محمد الخرّاط، دار القلم/دمشق، ط4، 2014م، ص178 .
15)    المرادي: الجنى الداني في حروف المعاني، ص204-207 .
16)    ابن هشام، مغني اللبيب، 1/61-68 .
17)    الطبري، جامع البيان في تأويل آي القرآن، تحقيق صدقي جميل العطار، دار الفكر/بيروت، ط1، 2001م، 27/37 .
18)    نفسه، 27/38-39 .
19)    الطوسي: التبيان في تفسير القرآن، قدّم له الشيخ آقا بزرك الطهراني، مطبعة ذوي القربى/طهران، ط1، 1431ه، 9/418 .
20)    الآية 10 من سورة الأحزاب .
21)    الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد خليل عيتاني، دار المعرفة/بيروت، ط3، 2001م، ص34 .
22)    الكرماني: أسرار التكرار في القرآن المسمّى البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه الحجة والبيان، تحقيق عبدالقادر محمد عطا، دار الفضيلة/القاهرة، تاريخ المقدمة 1977م، ص229 .
23)    الزمخشري: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمد معوّض، مكتبة العبيكان/الرياض، ط1، 1998م، 5/630 .
24)    ابن عطية: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق السيد عبدالعال السيد إبراهيم، دار الفكر العربي/القاهرة، ط2، 1991م، 14/69 .
25)    العكبري: إملاء ما منّ به الرحمن في وجوه الإعراب في جميع القرآن، دار الكتب العلمية/بيروت، ط1، 1979م، 2/246 .
26)    القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق صدقي جميل العطار والشيخ عرفان العشّا، دار الفكر/بيروت، ط جديدة لونان، 2002م، 9/56053 .
27)    أبو حيان الأندلسي: البحر المحيط، تحقيق الشيخ عرفان العشّا، دار الفكر/بيروت، ط جديدة، 2005م، 9/574 .
28)    البيضاوي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، دار الكتب العلمية/بيروت، ط1، 1999م، 2/436 .
29)    الآلوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث العربي/بيروت، د.ط، د.ت، 27/39 .
30)     نفسه، 27/43 .
31)     ينظر محمد الطاهر ابن عاشور: التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ/بيروت، ط1، د.ت، 27/72-88 .
32)    عبد العظيم إبراهيم المطعني: التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الحكيم، مكتبة وهبة/القاهرة، د.ط، د.ت، 4/160 .

تعليق عبر الفيس بوك