أدب التزفين (ترقيص الأطفال) (1 -5)


أ.د/ إيمان محمد أمين الكيلاني - الجامعة الهاشمية – الأردن
 على الرغم من قسوة الحياة في جزيرة العرب في الجاهلية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ومناخياً؛ مما صبغ واقع العربي بالجـِدّة والحِدة، وجعله يدرج قبل أوانه على الفروسية والجسارة، فإنّ ذاك لايعني أن الجفاء والجفاف والقسوة هي عنوان تلك المرحلة، ولا يعني البتة أن لا مكان للمشاعر الدافئة والعاطفة الإنسانية في تلك البيئة البدوية التي تحتكم إلى قيم قبلية قائمة على الصراع من أجل البقاء، بل إن مشاعر الأنفة والفروسية والحمية كانت تستدعي ما يقابلها من مشاعر الوفاء والصدق، والنجدة و الكرم، فكان الأدب هو الجانب الآخر الذي يعكس وجهي الصحراء في شخصية العربي الأصيل الذي كان يموت حقداً ثأراً لكرامته كما يموت حباً صدقاً في مودته، ألا ترى شعر الحرب من فخر ومدح يستهل بلغة الحب في النسيب، مازجاً فيه الشاعر بين الحب والموت في ثنائية تشكل كيان الإنسان العربي، وصميم وجوده  فهو يكره ويحب بمنزلة واحدة.
وعلى الرغم من طبيعة ذلك المجتمع المحارب ، فإننا نجد كماً لا بأس به من شعر "التزفين" الذي كانوا يهدهدون به صغارهم، و نجد فيه قيماً و آمالاً وأخلاقاً تشير في مضمونها إلى  وعي العرب المبكر بالقيمة التربوية التي يربى عليها الأطفال في المرحلة العمرية الأولى، و هي تشكل الأساس الذي يزرع المنظومة الأخلاقية التي تُرَسَّخ في لاوعي الطفل؛ ليكون مستقبلاً القائد والرائد والفارس.
ومع أن اللغويّين الذين جمعوا اللغة اهتموا برفيع الشعر، للشعراء المشهورين من قصائد طويلة وببحور الشعر الطويلة ،من طويلٍ وبسيط ووافر وكامل ......الخ، مما شغلهم عن أن يجمعوا شعر "التزفين" الذي غالباً ما يكون على الرجز والمجتث ونحوهما، وهو مما تغنيه النساء لأطفالهنّ، وما جمع غالباً من شعر هو للرجال المشهورين، أو ما قالته نساء في رجال مشهورين، ولم يجمع -غالباً- ما تقوله النساء من شعر، فكيف إذا كان مقطعات للأطفال، نقول: مع ذلك فقد ورد في تراثنا كمّ لا بأس به من "التزفين" يشكل مادةً تعطي صورة عن طبيعة ذاك الشعر ومضمونه، كما يشير إلى أنه الأساس الفصيح الذي امتد إلى شعرنا الشعبي بالعامية، فهو فن أصيل غنته جداتنا، وأجدادنا أحياناً للصغار، وورثناه عبر العصور المتتابعة، نغنيه لهم ونورثه لأبنائنا.
ولاشك في أن هذا الشعر يشكل الجرعة الأولى التي تهيىء الطفل لتذوق الشعر وروايته في السادسة فما فوق ، حافظاً أمجاد القبيلة وقيمها وأعرافها .
إنه أدب ينم عن وعي العرب المبكر بأهمية تنمية الطفل لغوياً ونفسياً وفكرياً واجتماعياً، فالوشيجة قوية بين التفكير واللغة، إنها رسالة تعلي من شأن الأنا لديه ، وتنميها ، إذ كيف يتخلق الشعورمع الآخر مع المجتمع ،مالم تستو الأنا وتنضج نضجاً سوياً؟ وهو ما يؤكده جين بياجيه (Jean Piaget) في دراساته في علم نفس الطفل، وعلاقة اللغة بالتفكير منها".... نظريته الشهيرة في مرحلة "الأنانية" على ملاحظة كلام الطفل في هذه المرحلة، وهو كلام يتمحور حول "الأنا" ولا يأخذ الطفل فيه بعين الاعتبار وجود الآخر، السامع لكلامه....ليست اللغة عند بياجيه مجرد دليل على نفس الطفل وعقله، بل إنه يعدها من أهم الوظائف الرمزية التي يتعامل بواسطتها الإنسان مع محيطه المادي والاجتماعي.... فإن اللغة في نظره تساعد في تطور الإدراك عند الطفل....فإن سلمنا بأن الطفل يواجه في سني حياته الأولى العالم الخارجي ويتفاعل معه، لقلنا إن اللغة تكون مادة معقدة تنبه ذهنه وتغذي فيه روح التطلع وقوة الإدراك ."      ومما يدل على اهتمام العرب في حياتهم اليومية بهذا الفن وشيوعه لديهم أن أطلقوا عليه تسميات عديدة  كلها بسيطة ناعمة مقاربة للغة الطفل منها:
1) التزفين و الزَفَن ....وفي حديث السيدة فاطمة عليها السلام أنها كانت تُزَفِّن للحسن، أي ترقصه.    
2) الزهزقة: ترقيص الأم للصبي - والزقزقة ترقيص الأم ولدها  .
ولا يخفى تشبيه الطفل بالعصافير الصغيرة ، نظراً إلى أن استجابتهم للغناء والترقيص تكون بإصدار أصوات ضحكات متكررة انفعالية أشبه ما تكون بالصفصفة والزقزقة، بل إن هذا يمتد إلى عاميتنا، فعندما نغني للطفل ويصدر تلك الأصوات نقول: يزقزق.
3) البأبأة: ترقيص المرأة ولدها، ولعله في مرحلة تعليم الطفل حرف "ب" الشفوي تمهيداً لنطقه كلمة "أب" على غرار ما نفعل اليوم عندما نزفن صغارنا بالعامية، فيبدأون بالباء، وبعدها الميم، لأنهما حرفان شفويان سهلا المخرج، وهما أسهل صوتين في كلمتي "أب" و"أم" ويؤيد هذا ما ورد في اللسان من أن "ببه صوت من الأصوات، وبه سمي الرجل، وكانت أمه ترقصه به " .
ومنه ما روي من أن هند بنت أبي سفيان كانت ترقص ابنها عبدالله بن الحارث:
 
لأَنْكِـحَنَّ بَبَّــه       
               جــارِيَـةً خِدَبـَّـه       
مُكَرَّمَةً مُحَبَّه       
              تُحِبُّ أَهْلَ الكَعْبَه    
  وذكر صاحب الوافي بالوفيات أن عبد الله بن الحارث إنما لقب ببه، لأن أمه كانت ترقصه بذلك ، وأما الارتباط بين اسم الصوت (الباء) والطفل الصغير المرقص الذي يسمى"ببه" إنما هو من قبيل تسمية الناطق محاكاة بالمنطوق، بل إن كلمة "ببه" هذه بلفظها ومعناها مستعملة في اللهجة الأردنية في بعض قرى الشمال، حيث يسمى الوليد الصغير ابن بضعة أشهر بـ"ببه" أي "البيبي" بل ربما كانت تسمية "بيبي" بالإنجليزية من قبيل هذه المحاكاة، وفي العبرية "بوباه " تعني دمية أو لعبة، وكلها متقاربة في الدلالة، وليس هذا ببعيد عن حياتنا اليومية المعاصرة، فأحياناً تجد الأطفال يسمون إخوتهم الصغار بـ "غاغه" نسبة إلى ما يغنغنون به في محاولة لنطق الغين، حتى يغلب عليهم ذلك .
4) التنقيز: الترقيص، يقال: نقزت المرأة صبيها إذا رقصته ، والتنقيز أيضاً من الدوال على الترقيص في عاميتنا بأن يقفز الصغير بين يدي أمه مستجيباً لغنائها.
5)النـزنزة:والأم تنزنز صبيها: ترقصه.

 

تعليق عبر الفيس بوك