قراءات في الأدب الصهيوني المعاصر:

الأنا والآخر في "ابتسامة الجدي"لـديفيد غروسمان(1-6)

أمين دراوشة – أديب وناقد فلسطيني – رام الله

يمثل الأدب، كما يقول الكاتب حسن خضر،"الصندوق الأسود للجماعة البشرية، ففي ثناياه نعثر على عصابها الدفين، على أحلامها وكوابيسها. كما نعثر على طريقتها الذاتية في النظر إلى نفسها وإلى العالم، بالطريقة نفسها التي نعثر فيها على تفاصيل رحلة الطائرة وعلى استغاثتها الأخيرة قبيل وقوع الكارثة" (1)

صدرت “ابتسامة الجدي”مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وتدور أحداثها خلال ليلة ويوم من سنة 1972. وللرواية صفات تميزها عن الروايات الأخرى في الأدب الإسرائيلي، فهي الرواية الأولى للكاتب، وقد جعلت منه كاتبا مرموقا في إسرائيل. وهي الرواية الأولى التي تجري أحداثها في الضفة الغربية، والتي يشكل الاحتلال الإسرائيلي ركيزة من ركائزها الأساسية.وهي الرواية الأولى التي شكلت فيها الشخصية العربية، شخصية رئيسة ومحورية لها بصماتها في اتجاه الأحداث، ولا تقوم الرواية إلا بها.

تقدّمت الرواية خطوة إلى الأمام، في تصويرها للشخصية العربية، فعندما نشر الكاتب أ.ب. يهوشواع روايته "العاشق"، أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وأعطى فيها الشخصية العربية ـ الفتى نعيم ـ دورا أكثر مما هو متعارف عليه في الأدب الإسرائيلي، ووصفه ببعض الصفات الإيجابية، أحدثت الرواية ضجة كبيرة في الوسط الأدبي، لأنها اعتبرت اختراقا للتقاليد المتعارف عليها في الأدب الإسرائيلي.

أما لماذا نعتبر “ابتسامة الجدي”، أفضل بكثير من رواية "العاشق"، فهذا عائد إلى أن الفتى نعيم، كان يبذل كل ما في وسعه للاندماج في المجتمع الإسرائيلي، وعلى الرغم من كل ما فعله إلا أنه فشل، لتنتهي الرواية بربّ عمله يضعه في سيارته ويعيده إلى قريته.أما العجوز حلمي في “ابتسامة الجدي”، فإنه يبذل فكره لخلق عالم لا وجود للإسرائيليين فيه.وبعكس الروايات الأخرى، فإننا نرى فيها أن رواية العربي وشخصيته تتحولان "إلى مغناطيس تتجه نحوه بوصلة الإسرائيلي الباحث عن الانتماء"ـ الرواية: (ص10)، فشخصية حلمي فرضت وجودها وحضورها الطاغي من خلال صوتها المستقل، وقد أفرد لها الكاتب من المنولوجات الذاتية، ما لا يقل عن أية شخصية إسرائيلية، ما أعطاها الأبعاد النفسية والروحية والاجتماعية.

في الرواية عمل الكاتب في تقصي علل المجتمع الإسرائيلي من خلال البحث في النتائج الاجتماعية والنفسية المتولدة من احتلال الضفة الغربية، لذلك تميزت الرواية بنقد أيديولوجيا جيل الآباء المؤسس للدولة من خلال إدانةالمحركات النفسية والإيديولوجية التي تبرّر الاحتلال بأنه أمر قدريّ لا يمكن الفرار منه، لأنه كان منقذا للشعب اليهودي من المحرقة.

تبدأ الرواية بظهور شخصية العجوز العربي حلمي محتجزا شخصية إسرائيلية، هي يوري مساعد الحاكم العسكري، ومطالبا برحيل الاحتلال عن الضفة مقابل الإفراج عنه.

تتألف الرواية من مجموعة من المونولوجات التي تحكيها الشخصيات المحورية، وهي لا تقوم على الكشف المتدرج للأحداث، بل يظهر فيها تأثر غروسمان بالكاتب الروائي الشهير فوكنر وخصوصا روايته "الصخب والعنف".

تمتلئ الرواية بالحبّ والكراهية والحقد، وتتحدث عن العنف السياسي والنفسي، وديناميكية الإنسان، الذي يملك مقدرة عجيبة على العيش مع كلمات على لسانه لا تتوافق مع طبيعته. كما تتضمن كثيرا من الحكايات، بينهما حكايتان رئيستان تتفرع منهما الحكايات الأخرى، كما يشير المترجم.

الحكاية الأولى حكاية الجيل المؤسس للدولة اليهودية، ممن تمنطقوا بشعارات مثالية وبراقة، وعملوا على دفن التناقض بين ما يقولون وما يفعلون، ومن أجل طمس نقاط ضعفهم، تسلحوا بقوة الأيديولوجيا، لذلك تكون الأكاذيب المبتدعة كالجبال على صدورهم، لا يستطيعون الصمود أمامها. يمثل الحكاية الأولى إبنر المقاتل المثالي في القوات اليهودية فترة الانتداب البريطاني.

أما الحكاية الثانية، فهي للعجوز العربي حلمي، الذي تقف حكايته حجر عثرة أمام حكاية الجيل المؤسس. لأن عليه، كي يستمر في الكذب، أن يتصرف وكأنه لم يتسبب في العذاب والألم لحلمي وما يمثله، وأن يحاول التقليل من شأن عذاب الآخرين، في مقابل تضخيم ألمهوسمو أهدافه. وهذا الصراع بين الحكايتين، يزود الحكايات الأخرى ويشحنها بالتوتر، ويعطيها أهميتها داخل الرواية.

حلمي فلسطيني، تجاوز عمره التسعين، نصف مجنون وحالم، خلق لنفسه وجودا خياليا في مغارته في عندال، لتعود بنا إلى صورة العربي المتوحش، النبيل والبسيط، الذي يملك الحكمة ويتصرّف بعفوية، كما تناولها الأدب الإسرائيلي في بداياته في فلسطين.و"التناظرات الوظيفية في الرواية تبنى بواسطة الشخصيات نفسها. إنهم يكرّسون معظم وقتهم لمحاولة مفصلة ليحددوا أنفسهم من خلال وضع الشيء مع الجانب الآخر وطريقته في الحياة لإيجاد جواب على سؤال مزعج عن أنفسهم" (2) لذا يلعب حلمي كنقطة اتصال لا غنى عنها في الرواية، والتشابه الذي يخلقه بين يوري ويزدي ابنه، ركن أساسي في دينامكية الرواية ونموها.

ومن خلال الحكايتين الرئيسيتين، تتفرع حكاية المحرقة: حكاية زوسيا الذي يبحث عن الأمن والسكينة في عالم غريب عنه ولا ينتمي إليه، وقد ضاعت وفقدت ذاكرته؛ وكاتسمان الذي نجا من المحرقة، عن طريق حفرة اختبأ فيها مع والديه، وهجّر إلى إسرائيل وهو طفل، وعندما كبر أخذ يبحث عن الودّ والتلاؤم في عالم لم يستطع فهمه وتفسيره، وذاكرة لا تمحى تحاصره وتضغط عليه.

هنا يطرح الكاتب المبررات الإيديولوجية التي قامت عليها الدولة اليهودية، وهي إنقاذ اليهود من الهولوكوست، وحقهم في دولة في فلسطين، إذ لا مكان آخر يلجئون إليه، ولكن الضحايا تقمّصوا شخصية جلاديهم، وهم يذيقون الشعب الفلسطيني الألم والعذاب، وحتى يريحوا ضمائرهم، وللتخفيف من التناقض بين مثاليتهم المزعومة ومصالحهم الاستعمارية، فأنهم يقومون بعملية إسقاط، بمعناها النفسي، على الضحية الفلسطيني، ليكون هو الملام، لأنه يجبر الإسرائيلي على ممارسة العنف والقتل ضده، ما يتسبب في تلويث أرواحهم وإفسادها.

ومن الشخصيات الرئيسية في الرواية، شخصية يوري صاحب “ابتسامة الجدي”، الذي يصطدم بمجتمع مليء بالأكاذيب، فيبحث لنفسه عن حكاية جديدة؛ وشخصية شوش زوجة يوري، التي تكتشف أكاذيب الجيل المؤسس ممثلاً بوالدها، فتعاقب نفسها بمحاولة تدمير ذاتها.أما شخصية يزدي، الفدائيّ الفلسطيني وابن حلمي، فأنه يسعى نحو حكاية جديدة له، بعيدا عن حكاية أبيه.

عمل غروسمان على البحث في شخصية العربي من خلال كلامه، لذلك امتازت الرواية بكثرة المفردات العربية من أسماء نباتات وأطعمه، كما ورد فيها بعض مقاطع من الأغاني الشعبية الفلسطينية في محاولة للخروج من القالب النمطي للشخصية العربية في الأدب الإسرائيلي. لذلك تشكل “ابتسامة الجدي” محاولة غير  معتادة في الأدب الإسرائيلي لفهم الشخصية العربية من خلال حكايته الخاصة، "واستكشاف المساحة المحتملة أو الممكنة التي يمكن أن يحتلها العربي في حكاية الإسرائيلي عن نفسه، وبالتالي حدود الاعتراف بدوره كمكوّن لا مفر منه ـ سواء بالسلب أو الإيجاب ـ من مكونات الهوية الإسرائيلية لنفسها"ـ (ص14).

تعليق عبر الفيس بوك