أدب الحرب وسمات التجديد الشعري

"السابعة حـ(ــر) بًا بتوقيت دمشق" (1)

د. السيد العيسوي عبد العزيز – ناقد وأكاديميّ مصريّ
مدير النشاط الثقافي بمتحف أمير الشعراء أحمد شوقي

 

الشاعر عمر هزاع هو شاعر سوري معاصر، متميز على مستوى التجربة والأداء، ويعد أحد الشعراء الذين هجَّرتهم الحرب الدامية في سوريا في سلسلة أحداثها المتتالية الأخيرة في أعقاب سلسلة الثورات العربية التي اجتاحت الوطن العربي بإيجابياتها وسلبياتها. وقد تعرضت تجربته لسنوات من ضغوط النزوح الداخلي بين المدن السورية المحاصرة والمدمرة التي عانت ويلات الحرب الطاحنة بأبشع صورها وأكثرها فداحة وإيلامًا, وإلى ضغوط الهجرة الخارجية بين عدة دول يشير لها الديوان وهي هجرته الأولى إلى اليمن الذي لم يكن أفضل حالا من وطنه الأم مما اضطره للبحث عن ملجأ جديد يقي عائلته خطر التهديدات المحيطة به وبهم, فكانت هجرته الثانية إلى قطر.
ولذا تلقي هذه التجربة بظلالها الثقيلة على إبداع الشاعر في هذه المرحلة، ويعد هذا الديوان أحد العلامات الواضحة في هذا المضمار. ولأن مثل هذه الظاهرة تفرض علينا تقديم دراسة نحاول فيها المرور على الكثير من خصائص هذه التجربة فإننا نتجاوز عتبات التقديم التقليدي للدواوين والذي يتسم بكثير تدبيج وثناء ولا يخلو في بعض الأحايين من شيء من المغالاة في تقديم شاعر خلال ديوانه, لنقف على شرفات العمل وأركانه وقفة نقدية نتلمس فيها درجة نضوج وعمق التجربة, لعل هذه الدراسة تقدم فائدة مزدوجة لأطراف القراءة في هذا الديوان وأعني: قراءه ودارسيه من جهة أولى, وشاعره الذي لا يزال يخوض التجربة بكل انفعالاتها وتفاصيلها ليستمر كعهدنا به بتطوير وإنضاج منجزه الإنساني والحضاري من جهة ثانية, وهو -كما عرفناه- شاعر تواق للتجديد مستشرف للمستقبل يقدم الشعر الأصيل بروح حضارية وشكل فني متطور يعبر عن روح الشعر ويتطلع لغد يليق بهذا الفن الذي ينطلق من الذات ليتسع فيحمل الكون بين جنباته ويصبح لسان كل من يشعر ويحس.
والحق أن هناك موجة إبداعية جديدة مغايرة في بلاد الثورات العربية التي تحولت إلى حروب داخلية وخارجية مع الوقت، تستحق أن تدرس دراسة خاصة في ظل هذا الظرف الخاص، فهي ليست كالحرب ضد المستمعر من ناحية، ولا نستطيع أن نقول إنها حرب أهلية بالمعنى الدقيق للكلمة من ناحية ثانية، وفي هذا المناخ المختلط المشوش نشأت موجة إبداعية خاصة حملت هموما مختلطة منها ما هو متعاطف مع الشعوب، ومنها ما هو متعاطف مع الحكومات، ومنها ما يحمل هم الوطن ويعبر عن تجربته بكل أبعادها الإنسانية في ظل تدخل قوى عديدة واختلاط الرؤية وتحول المنطقة إلى أطماع استعمارية جديدة لدول بعيدة وقريبة تحت أشكال أحدث وأخبث.
وكل هذا يستدعي أن ننظر لهذه الظاهرة على أنها ظاهرة جديدة بمقياس تاريخ الأدب والنقد معًا، طرحت أسماء خاصة وتجارب خاصة وسمات خاصة بالطبع، وسبق أن درسنا ألوانًا من هذه التجارب.
والآن نود أن نقف أمام هذا الديوان باعتباره ممثلا لهذه الظاهرة، ومع أن الشاعر يشير إلى ذلك في العنوان، لكن الواقع يطرح مثل هذه التجارب بغزارة وتكاد تكون هي عنوانًا بذاتها، ظهر هذا بأشكال مختلفة ودرجات متنوعة في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا ما يحتاج إلى دراسة موسعة.
 قد يمر الزمن وتستقر الأحوال إن شاء الله، لذا يهمنا أن نرى الفني والإنساني في مثل هذه التجارب، بالإضافة إلى تجسد المشاعر الفطرية التي تجسدها هذه التجارب بما تطرح من تقنيات، وهذا ما سنركز عليه في دراسة هذا الديوان، وفق منهج خاص في تناول الظاهرة الإبداعية فصلنا فيه القول في أكثر من مكان.
ومن ذلك أننا سنقيس تجربة الشاعر بتجسد الخبرة الفنية والخبرة الإنسانية ومشاعر الفطرة العميقة والأحاسيس الكونية وصوت الجماعة ثم صوت الشاعر الخاص، ومدى الإضافة إلى هذا الفن.
يبدأ الشاعر ديوانه بنص خاص، يكشف عن مشكلة تمثل عائقًا كبيرا في سبيل نهضة الأمة، ألا وهو تزييف المعطى الديني، وتحويله لمعطى سياسي، يتم فيه الانتفاع من جانبين: السياسي ورجل الدين، ويكون الضحية هو الشعب، وهو بعنوان "استووا"، يقول فيه:
وَقالَ:
(استَوُووووا...)
فاستَقامَ الأَنامْ
فَكَبَّرَ, تَمتَمَ بَعضَ الكَلامْ
وَلَحَّنَ شَيئًا غَرِيبَ المَقامْ
وَناخَ عَلى رُكبَةٍ
وَاستَقامْ
وَعادَ...
فَمَدَّدَ كَفَّيهِ نَحوَ الوَراءِ
وَمَدَّدَ رِجلَيهِ نَحوَ الأَمامْ
وَنامَ الإِمامْ
كَما نامَ؛ مِن قَبلُ؛ عَن ذِكرِ:
(صَنعا, وَبَغدادَ, وَالقُدسِ, ثُمَّ الشَّآمْ)
وَلَكِنَّهُ لَم يَنَمْ حِينَ أَلقى
- عَلى الحاضِرِينَ -
مَزايا الصِّيامْ
وَفَضلَ الرَّئِيسِ
وَفَضلَ النِّظامْ
فَأَضفى؛ عَلى الجَوِّ؛ مِسكَ الخِتامْ
بِمَعنى السُّكُوتِ
وَشَدِّ اللِّجامْ
فَلا طابَ نَومُكَ؛ يا ابنَ الحَرامْ.
هكذا يكشف الشاعر منذ البداية عن إحدى أزمات واقعنا، وهي الزيف الديني والاجتماعي والسياسي، عبر نوع من نقد الواقع الصارخ، ما يعني أنه شاعر لن يكتفي بالوقوف على قشرة السطح المتجعدة الباردة بل يود أن ينفذ إلى لب الواقع الحارق ويشق سكته بحرارة الدمع والدم إلى بؤرة الصراع، وهذا شأن الشاعر الحقيقي المتحرك مع الحياة الذي يكتشف اللب تحت كل سطح.
ومن كل هذا يبدو لنا أنه نصٌ ذو دلالة مفارقة من حيث الابتداء، نص مباغت اعتمد على تقنية مفارقة الموقف، حيث الإمام الذي يجب أن يقول كلمة حق، يزيف الواقع، ويحول الدين إلى مطية لمصالحه الشخصية فحسب، وهنا يتم تزييف الحقائق وتغييب الوعي لدى الشعوب. إن المفترض في الدين أنه يمثل أسمى ما فينا، ولكنه حين يتم أنسنته وشخصنته بما يتساوق مع مصالح الحكومات والكراسي يتحول إلى شيء شكلي يفتقد كل قيمته، بل ربما أدى إلى إفساد الحياة من حيث يكون جوهره معطلاً ومجمدًا ويمر عبر عمليات خداع وتزييف.
اعتمد النص أيضا على معجم عصري وهو ما يتميز به شعر عمر هزاع، ونستطيع أن نلمس هذه السمة في كثير من نصوصه ما يضفي الحيوية والواقعية على نصوصه، مثل (النظام، ابن الحرام) كي يعبر عن انصهار تجاربه في أتون الواقع.

تعليق عبر الفيس بوك