الحياة الفكرية والثقافية في عـُمان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:

علوم القرآن والفقه والعقيدة (3/11)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان


في الحلقة السابقة تحدثنا عن العلوم الشرعية وأوضحنا كيف استأثرت علوم الشريعة الإسلامية وعلوم اللغة العربية وآدابها بالنصيب الأكبر من النتاج الفكري العماني، ولا غرو في ذلك فتأثير العصر الإسلامي كان لا يزال ساريا منذ عدة قرون. وكذلك استعرضنا لأهم العلماء الذين برزوا في هذه المجالات وخاصةً في علوم القرآن الكريم وتفسيره، وألقينا الضوء على كتاب "التفسير الميسر للقرآن" للشيخ سعيد بن أحمد الكندي وافي هذه الحلقة نتناول كتاب: مقاليد التنزيل لأبي نبهان الخروصي)، وننتقل إلى جانب الفقه والعقيدة..

التفسير الآخر للقرآن الكريم والذي ظهر في الفترة التي تناقشها هذه الدراسة هو كتاب (مقاليد التنزيل) للشيخ أبي نبهان الخروصي. و الملاحظ هنا أنه ما وجد من هذا الكتاب لا يتعدى تفسير سـورة الفاتحة فقط . و يذهب أحد الباحثين إلى احتمال أن يكون الشيخ قد توفي قبل أن يتم تفسيره، أو أن بقيـة التفسير قد ضاع، أو أتلف أثناء حياة الشيخ أو بعد وفاته ،و يرى أيضا أنه من خلال الاستدلال بمقدمة الشيخ لتفسيره يتضح أنه كان عازما على تفسير القرآن الكريم بأكمله، فقد ذكر الشيخ أن السبب الذي دعاه للقيام بالتفسير هو عدم وجود تفسير مكتمل لعلماء الإباضية، في حين وجدت تفاسير لعلماء آخرين لا تخلو من الخطأ و البعد عن التأويل الصحيح .

إن ما أورده الشيخ أبو نبهان في تفسيره يشير إشارة واضحة إلى أهليته العلمية لمثل هذا العمل العظيم، فقد كان منهجه وسطا بين الاختصار والإسهـاب، كما تطـرق إلى القـراءات المعروفـة، واهتم بالجـوانب اللغوية بالقدر الذي يحتاج إليه، إلى جانب اهتمامه بطبيعة الحال بالمدلولات العقدية. وضمـّن تفسيره بعضا من آرائه، ومنها على سبيل المثال أنه أجاز تفسير القرآن الكريم بلغات أخرى غير العربية، لأن الفهم للتنزيل قدر مشترك بين الأمم ، فكل قوم أدرى بمعاني لغتهم. و نظرا لأهمية تفسير أبي نبهان للفاتحـة فقد نقلـه نقـلا كامـلا  كل من الشيـخ سالم بن سعيد بن علي الصائغـي في كتابـــه (لباب الآثار) ، و ابن رزيق في (الصحيفة القحطانية) ، و أورد مقتطفات منه الشيخ خميس بن جميل السعدي في ( قاموس الشريعة ).


ب/ الفقه والعقيدة:
ظهر في الفترة التي تناقشها هذه الدارسة عدد من الفقهاء الذين كانت لهم مساهماتهم البارزة في إثراء الفقه الإسلامي. وبالإضافة إلى سعيد بن أحمد الكندي وجاعد بن خميس الخروصي برز آخرون ومنهم أبو محمد عبد الله بن ناصر السوني الخروصي، وهو من سوني القديمة التي تغير أسمها في عصر اليعاربة فعرفت بالعوابي، وكان هذا الشيخ معاصرا لأبي نبهان الذي أشار في بعض كتبه إلى جواباته عن مسائل فقهية مختلفة، وبلغ إعجاب أبي نبهان بهذا العالم حدا كبيرا إذ يروي عنه قوله: "إن أهل عمان لو اجتمعوا علي بيعة رجل لكنت أول من بايع عبد الله بن ناصر لأن خصال الإمامة كاملة فيه"، ورغم هذه المنزلة التي بلغها إلا أنه لم يعثر له على مصنفات. ومن العلماء البارزين أيضا ناصر بن أبي نبهان(1192-1263هـ/ 1778-1847م) الذي تتلمذ على أيدي عدد من العلماء من أبرزهم والده، وهو عالم موسوعي صنف عشرات المؤلفات في شتى علوم عصره، وكان من أشهرها  ( الحق اليقين) و يقع في ستة مجلدات ناقش فيها قضايا العقيدة.

كان الشيخ ناصر ذا معرفة ودراية كبيرة بعلوم الشريعة كالقرآن والحديث والفقه والأصول، وعلم الكلام والفلسفة، فضلا عن معرفته الواسعة بعلوم العربية كالنحو والصرف و الدلالة والبلاغة والأدب، وعلوم أخرى كالنبات و الفلك و التاريخ. أما عن التصوف الذي يسميه العمانيون (السلوك) فهو يعتبر رائدا من رواد المدرسـة السلوكيـة الإباضية، و له باع طويل في ذلك، تشهد عليه مؤلفاته العديدة في هذا  المجال، منها شرحه لقصيدة والـده السلوكيـة المعروفـة بحيـاة المـُهـَج، و كتابه (إيضاح نظـم السلوك) ، وألـّف أيضا ( لطائف المنن في أحكام السنن). و قد تطرق المؤرخ و الأديب ابن رزيق إلى مؤلفات الشيخ ناصر ونظم فيها قصيدة، وكان ابن رزيق صديقا للشيخ و دارت بينهما محادثات نثرية وشعرية. ومن الفقهاء البارزين أيضا الشيخ منصور بن محمد بن ناصر الخروصي، و هو حفيد أخي الشيخ أبي نبهان، و كان معاصرا له. برع في الفقه و النسب فظهر أثرهما واضحا في نتاجه الفقهي و الأدبي، ألف كتاب (النزهات في الرد على مؤلف كتاب الشبهات)، كما شرح لامية ابن النظر في مناسك الحج و له مسائل فقهية منظومة وجهها إلى معاصريه من العلماء.

وبرز من مدينة نزوى عدد من العلماء منهم الشيخ الفقيه هلال بن عبد الله العدوي الذي كانت له فتاوى في مسائل فقهية متعددة، وقد توفي في نزوى عام 1206 هـ/ 1791 م. ومنهم الشيخ علي بن مسعود العبادي، و قد توفي في 1225 هـ/ 1809 م، والشيخ سعيد بن سليمان السليماني.  و ظهر في مدينة منح مجموعة من العلماء من أبرزهم محمد بن سالم بن محمد بن بشير القرن المنحي. و علي بن سالم البوسعيدي، ومحمد بن علي العاتي المنحي. وبرز أيضا الشيخ جمعة بن علي الصائغي، وهو عالم فقيه واسع الإطلاع، ومن مؤلفاته (جواهر الآثار ومنهج الأبرار) و هو موسوعة فقهية تتكون من 14 مجلدا لايزال مخطوطا. و كان الشيخ يسكن منح ثم انتقل منها إلى نزوى و مات فيها في 6 محرم 1202 هـ  18 أكتوبر 1787 م.

ضمت مدينة بهلاء عددا من العلماء في أواخر القرن 12هـ/ 18 م، منهم ناصر بن سليمان المفرجي، و خلف بن سالم العبري، و علي بن عبد الله المفرجي، و أحمد بن عبد الله المفرجي، و عمير بن محمد الغلابي، و هؤلاء كانوا معاصرين أيضا لعلماء آخرين منهم: ناصر بن محمد الوردي، و محمد بن علي الجابري، و عامر بن علي العبادي، وخلفان بن بلعرب، و عبيد بن سعيد البلوشي. وهؤلاء جميعا لهم فتاوى وأبحاث فقهية. ومن فقهاء المنطقة الداخلية حسن بن محمد الدرمكي الأزكوي، و قد تولى القضاء في عهد الإمام أحمد بن سعيد ثم ابنه الإمام سعيد. ومن مدينة سمائل ظهر الشيخ سعيد بن سالم الفارسي و هو مؤلف كتاب (خزائن المواريث في أصول الفرائض)، والشيخ ناصر بن عبد الله السبتي وهو من مدينة فنجا. ومن فقهاء المنطقة الشرقية الشيخ عبد الله بن أحمد البوسعيدي السمدي، والشيخ ثاني بن سليمان بن عرابة. ومن وادي الطائيين بالشرقية سعيد بن ثاني بن عرابة الذي يحتمل أن يكون قد تولى القضاء وأثر عنه تعليق في كتاب خزائن المواريث في أصول الفرائض للشيخ سعيد بن سالم الفارسي، و كان ينظم الشعر، و ربما أخذ منه الشاعرية ولده هـلال الذي صار شاعرا و فقيها و قاضيا في عهد السيد سعيد بن سلطان.

تعليق عبر الفيس بوك