جائزة نوبل بين علم النفس والاقتصاد

د. أسامة محمد عبد المجيد إبراهيم
أستاذ علم النفس التربوي – جامعة سوهاج


في السنوات القليلة الماضية، برز فرع حديث نسبيا يسمى الاقتصاد السلوكي Behavioral economics وهو علم يتقاطع فيه علم النفس مع الاقتصاد حيث يركز على فهم العوامل النفسية والاجتماعية المرتبطة بعملية اتخاذ القرارات الاقتصادية لدى الأفراد، وهي قرارات في معظمها قرارات غير عقلانية لا تخضع للنماذج المنطقية الرياضية التي يفترضها الاقتصاديون. هذا الفرع من الاقتصاد بدأ يدخل إلى عملية صنع السياسات العامة في الكثير من الدول، فأسست الحكومة البريطانية فريقا "لفهم وتسخير السلوكيات"، كما أسست الحكومة الأمريكية فريقا للهدف نفسه في البيت الأبيض.
وفي عام (2002) مُنح عالم النفس دانيال كانيمان من جامعة برنستون جائزة نوبل في الاقتصاد لمساهماته في دمج التحليل الاقتصادي مع علم النفس، حيث قدم نظرية الاحتمال Prospective Theory، وقال: إن الافراد لا يتبعون دائما نظرية المنفعة المتوقعة Expected Utility Theory .
وقد مثَّل فوز دانيال كانيمان أحد المفارقات الأكثر عمقاً في تاريخ العلوم السلوكية. وقد وجه البيان الصحفي من الجائزة الأكاديمية الملكية السويدية الانتباه إلى جذور العمل الفائز في "تحليل الأحكام البشرية واتخاذ القرار من جانب علماء النفس المعرفي. أجابت دراسات دانيال كانيمان على سؤال: "كيف أن قرارات الأفراد قد تأخذ طرقًا مختصرة موجهة تحيد بشكل منهجي عن المبادئ الأساسية للاحتمال". وتمحورت أعماله حول كيفية صنع الإنسان للخيارات وتقييم الاحتمالات، واكتشاف بعض الأخطاء الأساسية التي تعد نموذجية في عملية صنع القرار. وكانت أعماله الأكثر تأثيرا في كل من علم النفس والاقتصاد، واستحقت أن تكرم بجائزة نوبل. وتلقى مقال العلوم عام 1974 الذي كتبه تفيرسكي و دانيال كانيمان ، في وقت مبكر من عام 2015، أكثر من 33,000 مشاهدةً وفق تقديرات محرك البحث جوجل. كما تلقى كتاب دانيال كانيمان الأخير (2011) أكثر من 6,000 مشاهدةً في الوقت نفسه. وتمثل هذه الأرقام، جنبا إلى جنب مع جائزة نوبل لعام 2002، تأثيرا علميا غير مسبوق.
وعلى المنوال نفسه، مُنحت جائزة نوبل في الاقتصاد عام (2017) إلى ريتشارد ثالر - أستاذ العلوم السلوكية والاقتصاد في جامعة شيكاغو- الذي يعد من رواد حركة فهم السلوك الاقتصادي للبشر. وقالت اللجنة المانحة للجائزة إن ثالر أسهم إسهاما رائعا في فهم علم نفس الاقتصاد، وأنه وثق كيف تؤثر سلوكيات محددة على القرارات الاقتصادية لدى البشر، كما ساعد على نشر علم السلوك الاقتصادي كمجال بحثي.
لقد كان جوهر أعمال كانمان التي حازت على جائزة نوبل في الاقتصاد تدور حول موضوع إصدار الإحكام وصنع القرار التي تمثل مقاييس تنفيذية للتفكير العقلاني في العلوم المعرفية. ولأن تقييمات الذكاء جرى النظر إليها بأنها جوهر التفكير الجيد، فقد يظن أن هذه الاختبارات بمثابة أدوات لتقييم التفكير العقلاني. لكن هذا افتراض ليس صحيحا.
واليوم أشير إلى مدرسة متنامية على يد عالم النفس الكندي ستانوفيتش الذي يعمل منذ سنوات في محاولة منه للتمييز بين العقلانية والذكاء وتفسير كيف يمكن أن يكون الفرد ذكيا وفي نفس الوقت غير عقلاني.
لقد اعتاد الباحثون في علم النفس تعريف الذكاء أنه يشتمل على نوع من التفكير العقلاني، أو التصرف بطريقة رشيدة، أو اتخاذ قرارات صائبة أو التكيف السلوكي، وهكذا أُدرجت العقلانية في اختبارات الذكاء. ولكن ظلت المشكلة أن أيا من هذه العناصر العقلانية – الاستجابة التكيفية، والحكم الرشيد، واتخاذ القرار – لا يتم تقييمها فعليا ضمن اختبارات الذكاء. لقد درج العاملون في مجال قياس الذكاء على القول بأنك ستجد كل ما تحتاجه في التقييم المعرفي من خلال اختبارات الذكاء. لكن في الواقع، نحن لا نحصل على قياس للتفكير العقلاني تلقائيا بمجرد تطبيق أحد اختبارات الذكاء.
وغالبا ما تتبع العديد من نظريات العلوم المعرفية نوعين من العقلانية: العقلانية الذرائعية instrumental rationality، العقلانية المعرفية Epistemic rationality.
وتؤكد تعريفات العقلانية الذرائعية على الواقع العملي، التعامل مع الواقع بحيث يتسنى لنا الحصول على ما نريد بالضبط، بافتراض توافر المصادر (البدنية والعقلية). بشكل أدق، يمكن وصف العقلانية الذرائعية بأنها "الاستغلال الأمثل للمصادر المتاحة من أجل تحقيق هدف الفرد بشكل كامل". وقد صقل علماء النفس المعرفيون والاقتصاديون مفهوم الاستغلال الأمثل لتحقيق الهدف في المفهوم التقني للفائدة المتوقعة.
وتتعلق المعتقدات العقلانية المعرفية بـالكيفية التي تنتظم بها المعتقدات في بناء فعلي للواقع. هذان النمطان من العقلانية (الذرائعية والمعرفية) مترابطان. فلكي نتخذ إجراءات تحقق أهدافنا، فإننا بحاجة إلى أن نؤسس تلك الإجراءات على معتقدات تتطابق مع العالم بشكل سليم.
وكلا النوعين من العقلانية يرتبطان باثنين من الأمور المهمة: ما هو صحيح، وما يجب فعله. تتعلق العقلانية المعرفية بما هو صحيح، وفي حين تتعلق العقلانية الذرائعية بما يجب فعله. فمن أجل أن تكون معتقداتنا رشيدة يجب أن تتوافق مع الطريقة التي يكون عليها الواقع – بمعنى أنها يجب أن تكون صحيحة. ومن أجل أن تكون أعمالنا عقلانية، يجب أن تمثل أفضل وسيلة لتحقيق أهدافنا – كما يجب أن تمثل أفضل الخيارات التي يمكن فعلها. لذا يعرف الاقتصاديون وعلماء العقلانية المعرفية، العقلانية الذرائعية بأنها "تعظيم المنفعة المتوقعة إلى أقصى حد ممكن".
ولكي يكون المرء عقلانيا على نحو ذرائعي (نفعي أو وسيليّ)، يجب أن ينتقي من بين الخيارات الخيار الذي له أكبر فائدة متوقعة. وتشتق الفائدة المتوقعة من مفهوم القيمة المتوقعة. يقول مبدأ تعظيم القيمة المتوقعة: إن الإجراء الذي ينبغي أن يختاره شخص عقلاني هو الخيار ذو أعلى قيمة متوقعة.
ولكي يكون الشخص عقلانيا على نحو معرفي، يجب أن تتبع تقديراته المحتملة قواعد الاحتمالات الموضوعية. هذه الاحتمالات ليست حسابات واعية، بطبيعة الحال – فهي تقديرات تتعلق بمعتقدات الفرد وثقته عن حالة العالم الخارجي. فإذا كانت احتمالات أحكامنا عن حالات العالم الخارجي على خطأ، فإن اتخاذ القرار لن يعظم من فائدتها — أعمالنا لن تؤدي إلى الحصول على معظم ما نريد. وهكذا، أصبحت العقلانية المعرفية والذرائعية متشابكة. فإذا أردنا تحديد ما يجب فعله، فنحن بحاجة إلى التأكد من أن الإجراءات التي نتخذها تستند إلى ما هو صحيح. والمعتقدات العقلانية بهذا المعني - المعتقدات المعرفية العقلانية– هي الأساس الذي تقوم عليه عقلانية الفعل.
وأن تكون عقلانيا يعني أن تتصرف لتحقيق أهدافك في الحياة باستخدام أفضل الوسائل الممكنة.  والتحدي الجاري العمل عليه اليوم على أيدي علماء النفس هو تطوير أدوات تقييم لقياس هذه المهارات المعرفية الفريدة للتفكير العقلاني.

تعليق عبر الفيس بوك