علي المعشني
يُمكننا القول إننا تجاوزنا الأزمة المالية الطارئة للعام 2017 بصعوبة بالغة، لكننا سنعاني من ارتداداتها العنيفة لسنوات قادمة، بيدنا قصرها وإطالتها، رهنًا بمدى علاجاتنا وسُبل مواجهتنا لتلك الآثار الحتمية الناجمة عن تلك الأزمة.
ففي كل تجربة مثيلة فيما مضى من الوقت، كُنا نجتر ذات العبارات، ونجترح ذات الحلول، وكان عزاؤنا دائمًا هو حتمية صعود أسعار النفط، وجبر ضرر اقتصادنا، وتغطية العجوزات وسداد القروض المحلية والخارجية. أما اليوم، فقد تبين لنا إلى حد اليقين أن الرهان على النفط وأسعاره هو رهان الضعفاء والعاجزين، وأن البديل هو السعي الحثيث نحو بدائل اقتصادية أخرى، خاصة بعد أن تبين لنا بالعين المجردة أن أسعار النفط ستتجمد في أفضل حالاتها عند سعر 60 دولارا للبرميل؛ حيث لم يعد ذلك الذهب الأسود الذي يخطف الأموال، وتتهافت عليه الاقتصادات، ويحلق سعره في السماء لمجرد إشاعة أو أزمة سياسية أو أحوال مناخية هنا أو هناك.
فالأزمة التي ألمَّت بنا ومررنا بها هي أزمة من نوع خاص، وتحمل دلالات عميقة وسمات دائمة إلى ما شاء الله. وبالتالي؛ لابد لنا من التفكير العميق والسعي الجاد نحو الموارد البديلة والاستثمارات الذكية ذات القيمة المضافة للاقتصاد الوطني والمجتمع العُماني؛ فالقادم لا يحتمل أنصافَ الحلول ولا القسمة على اثنين ولا الترحيل لصدف قادمة.
نحن اليوم أمام تحديين كبيرين، لابد لنا من مواجهتهما، ووضع الحلول المناسبة والدائمة لهما، وفق ضوابط وإستراتيجيات لا تعرف التراخي أو التأجيل، يتمثل التحدي الأول في كيفية خلق موارد مالية مجزية بأقل إنفاق ممكن نظرًا لغياب السيولة وحجم العجوزات المؤجلة والتي تنتظر العلاج، ويكمُن التحدي الثاني في تلبية المطالب الوظيفية للمواطنين في ظل شُح الموارد والتدفق الكبير لمخرجات التعليم وتعاظمها ككرة الثلج.
إعلان ميزانية عام 2018م بمبلغ إيرادات متوقعة تقدر بـ9 مليارات و500 مليون ريال عُماني، وبعجز مقدر بـ3مليارات ريال، يعني أن العام الجاري سيكون عامَ تشغيل للدولة، وصيانة للمرافق والبُنى الأساسية لا أكثر ولا أقل.. أي لا حديث عن مشروعات تنموية على الإطلاق.
اعتماد سعر 50 دولارا للبرميل كسعر متوقع هو قراءة عقلانية وواقعية من واقع الأسعار المتداولة حاليًا، ويمثل كذلك الإقرار الضمني من الحكومة بأن سعر البرميل لن ينتعش إلا بمعجزة قد يطول انتظارها، والبديل هو ما ذكرناه في بداية المقال بضرورة تناسي عصر الترف النفطي، وتجاوزه إلى غير رجعة.
الوضع العام الداخلي والدولي يُلزمنا البحث عن حلول ذكية تعتمد بالدرجة الأولى على مراجعة التشريعات والإجراءات ذات الصلة بالاقتصاد الوطني والاستثمار وتبسيط الإجراءات؛ كي نعزز من فرص الاستثمار الداخلية والخارجية ونخلق عوائد مالية مريحة، وفرص عمل جاذبة، ونقوِّي من نسيج القطاع الخاص في السلطنة ليقوى عُوده، وتشتد مناعته، ويصبح يدًّا عُليا لا سُفلى كحاله اليوم.
نُقر ونعترف، ومن واقع أرقامنا، بوجود مليوني وافد بيننا، وفي المقابل لا نجد سياسات للاستفادة المادية من وجودهم سوى بإصدار بطاقة وتجديدها، والتي يتحملها المواطن؛ حيث لا ضرائب دخل ولا تأمينات على الوافد، ولا أنشطة ولا فعاليات، ولا خدمات تشجع الوافد على الإنفاق. من هنا، فإنني أرى أنَّ هذه الشريحة الهائلة لم تُستثمر بعد الاستثمارَ العقلانيَّ الخلاق، وعلى قاعدة لا ضرر ولا ضِرار.
فقد آن الأوان اليوم لأن نقِيْم هيئة مستقلة تقوم على شؤون العمالة الوافدة، وتنظيم سوق العمال، وإدخال الجودة والتنافسية على شرائح العمال، وتعدد مصادر استجلابهم، مع الحرص التام على تصنيفهم الوظيفي وكفاءتهم، حتى نضمن عمالة ماهرة ومُنتجة، ترتقي بالخدمات وتسهم في التنمية بمفهومها الواسع، وتعين العنصر الوطني على الاحتكاك والاستفادة وتعميق تجربته وخبرته.
على أن تكون من مهام هذه الهيئة البحث عن مصادر عمالة ماهرة، وتوفيرها للسوق من مصادر مختلفة، وبنسب وأعداد متوافقة، وفي إطار عدد إجمالي لا يُخل بالتركيبة السكانية، ولايشكل ضغطًا معيبًا على قطاع الخدمات والبُنى الأساسية، مع التأكد من الخبرات عبر اتفاقيات شفافة وملزمة لبلدان المنشأ، واتفاقيات قضائية لمتابعة المخلين بقانون العمل والشرف والأمانة ومرتكبي الجرائم.
وأن تسعى تلك الهيئة المقترحة لتدوير العمالة بين المنشآت التجارية عبر قاعدة بيانات متجددة، تسعى لاستيعاب الباحثين عن عمل من الوافدين، وتصنيفهم مهنيًّا، وإعادة تشغيلهم في المؤسسات الراغبة بجلب عمالة أو الزيادة منهم، كحل للتسرب وفتح الباب لجلب المزيد منهم في ظل وجود البديل. كما يُمكن للهيئة وضع برنامج تأميني للوافدين (تأمين بطالة) لمدَد مُحدَّدة يسهم العامل الراغب في سداد حصصها تحسبًا لفقده عمله، ويمكنه استردادها في حال رغبته أو مغادرته النهائية.
كما يُمكن للهيئة البحث في إمكانية خلق فرص استثمارية للوافدين للأنشطة الصغيرة والمتوسطة بضوابط وشروط مرنة وذات عائد مادي ومعنوي على الوطن، إضافة للتأمين الصحي الإجباري وضريبة الدخل وتيسير غرامات المتخلفين والمخالفين الراغبين في تسوية أوضاعهم القانونية.
كما يُمكن للهيئة خلق مناشط وفعاليات فنية وثقافية ورياضية للجاليات عبر توفير القاعات والملاعب وتنظيم الدورات والمسابقات والمطاعم في المناطق الصناعية...وغيرها؛ بقصد الترفية والاستفادة من تلك الفعاليات والمناشط في تحقيق عوائد مالية لخزينة الدولة.
الحقيقة التي لا يُمكن إنكارها أو تجاوزها هي أن سوق العمل وقانون العمل مُربكان للغاية، وتسبَّبا في الكثير من القلق للعمالة والقطاع الخاص معًا؛ بسبب التشريعات والقوانين المتبدلة والمتغيرة وبلا أسباب وجيهة في معظم الأحيان؛ الأمر الذي دفع بالعمالة لولوج الصعاب والتحايل والمخالفات لتحقيق مصالحه وغاياته، وهذا ما يُلزمنا اليوم لاتخاذ خطوات واضحة ومريحة تحقق الاستقرار للعامل وسوق العمل، وتقلل من المخالفات والالتفاف على القوانين، وبهذا نستطيع أن نجعل من هذه الشريحة الكبيرة عاملَ دخل مادي كبير، ومصدرًا للاستثمار، وطرفًا في المشروعات التجارية، بدلًا من تهميشها وحصرها في زاوية الاتهام باستنزافها للثروة دون طائل أو عائد.
حين تنحدث عن قطاع السياحة في السلطنة، فإننا نتحدث عن قطاع يستدعي الدخول المالية الكبيرة دون عناء يُذكر نظرًا للتنوع الطبيعي الهائل لجغرافية ومناخ السلطنة وشعبها المضياف وأمنها واستقرارها، وكل ما نحتاجه في تقديري في هذا الظرف الدقيق هو مراجعة منظومة تأشيرات الدخول فقط لا غير، وتوسيع دائرة الجنسيات المسموح لها بدخول السلطنة وفق ضوابط وشروط منطقية ومعقولة وتأسيًا بدول الجوار على أقل تقدير، وبهذا نضمن مضاعفة رقم السواح ورفعه إلى 3 ملايين وأكثر بجرة قلم كما يقال، ودون الحاجة لإنفاق يُذكر، فتنشط المرافق السياحية والطيران والأسواق والخدمات المرافقة كذلك.
وحين نتحدث عن تشغيل الشباب، ففي تقديري لا خيار لنا سوى تعميق النظرة في إسهام صناديق التمويل بدعم مشروعات الشباب بطرق وآليات مختلفة عن السائد اليوم، ومنها ضرورة قيام تلم المؤسسات بدراسات جدوى محكمة لمشروعات مختلفة وتوزيعها على الراغبين الجادين مع منح تلك المشروعات ميزانية تشغيل لا تقل عن عام كامل لتحقيق الاستقرار والاستمرار معًا، وأن تعطى الأولوية للمشروعات الزراعية والسمكية والحيوانية لتحقيق الأمن الغذائي مع جعل تلك المشروعات تحت سقف ومظلة الشركة العمانية للأمن الغذائي من حيث الإشراف والتوجيه والتسويق. فالوقت والظروف لم تعد تسعفنا لتكديس المزيد من الموظفين في الوحدات الحكومية المتخمة بالموظفين والبيروقراطية معًا، وآن الأوان للبحث عن طرق جاذبة وذكية لاستقطاب الموظفين وتنفيس احتقان القطاع العام بفائض الكادر البشري غير المنتج وتمكينه من العمل الحر وتسخير كل سُبل الجذب والاستقرار له ولنشاطه... وبالشكر تدوم النعم.
---------------------------
قبل اللقاء: من المشكلات الكبرى والمانعة لنمو القطاعات في السلطنة هو تفرد الحكومة بالدراسات والتنفيذ، دون إشراك المختصين ولا المعنيين ولا المستفيدين في الأمر؛ وبالتالي تأتي النتائج عكسية وسلبية للغاية.
Ali95312606@gmail.com