الحياة الفكرية والثقافية في عـُمان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:

ازدهار الحياة الفكرية في عمان في بداية العهد البوسعيدي (2/11)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

إن الحركة الفكرية التي ازدهرت في عهد اليعاربة استمرت في بداية عهد الأسرة البوسعيدية، و على الرغم من الفوضى التي عمت عمان خلال الثلاثينيات و الأربعينيات من القرن الثامن عشر الميلادي نتيجة الغزو الفارسي و ظهور النزاع القبلي بين الغافرية والهناوية، إلا أن الأوضاع ما لبثت أن شهدت حالة من الاستقرار في عهد الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي ، و أدى ذلك بطبيعة الحال إلى تأثير إيجابي على الحياة العلمية و الفكرية. و كان من مظاهر هذا التأثير غزارة الإنتاج الفكري الذي شهدته عمان أثناء تلك الحقبة، و ظهور عدد من المفكرين الذين أثروا الحياة الفكرية ، واستمر تأثيرهم بعد رحيلهم بأجيال متعاقبة.

استمرت مدرستا نزوى و الرستاق في تخريج عدد كبير من العلماء ، كما ظهرت مدارس أخرى من بينها مدرسة الهجار والعلياء في وادي بني خروص. وكان من أبرز من ظهر من العلماء الشيخ الرئيس أبي نبهان جاعد بن خميس الخروصي الذي يعتبر مدرسة فكرية متميزة، و الشيخ حبيب بن سالم الأمبوسعيدي، و سعيد بن أحمد الكندي، و هلال بن عبد الله العدوي، و الشاعر سالم بن محمد الدرمكي. ولم يكد القرن الثامن عشر ينتهي حتى ظهرت بوادر نبوغ الشيخ العلامة ناصـر بن أبي نبهـان في علوم الشريعـة والتصوف، والأديب المؤرخ ابن رزيق. لقد كان للاهتمام الذي أبداه البوسعيد أثر كبير في ازدهار الحياة الفكرية في عمان، وكان من بين مظاهر ذلك الاهتمام إستعانة الإمام أحمد بن سعيد بنخبة من العلماء طالبا منهم المشورة في بعض القضايا. من ذلك على سبيل المثال توجيه الإمام سؤالا إلى الشيخ الفقيه حبيب بن سالم الأمبوسعيدي (و كان أحد العاقدين عليه بالامامة ) حول جواز شراء البضائع التي نهبها ميرمهنا ـ و هو أحد زعماء العشائر العراقية في البصرة من الإنجليز ـ ، و قد رد الشيخ على الإمام بأنه إذا تيقن من أن الانجليز في ذلك الوقت كانوا في حالة صلح أو مهادنة مع المسلمين فلا يحل للإمام أن يشتري من الأموال التي نهبها منهم مير مهنا كما لا يجوز أن تقبل منه ولو على سبيل الهدية .

كان مجلس الإمام أحمد يضم عددا من أبرز العلماء والأدباء و القضاة ، وكان بعض هؤلاء يرافقونه في تنقلاته و جولاته. كما كانت له مراسلات عديدة معهم في قضايا متنوعة. و عندما خلف الإمام سعيد بن أحمد أباه في الحكم عام 1783 كان معروفا لدى العمانيين بنظمه للشعر، و أثرت عنه قصائد غاية في الرقة في الغزل والوصف. و عندما تولى ابنه حمد زمام السلطة (1789-1792 م) عمل على تشجيع العلماء فقربهم إليه وأكرمهم، و من ذلك على سبيل المثال القصة التي ذكرها المؤرخ ابن رزيق المعاصر لتلك الأحداث، و التي تدل على كرمه واحترامه الكبير للعلماء.
لم يقتصر أمر رعاية العلم والعلماء على أئمة وحكام الدولة بل شمل أيضا عددا من الولاة ومن أبرزهم والي مسقط السيد خلفان بن محمد البوسعيدي (المعروف بالوكيل)، ويذكر عنه أنه استضاف العلامة الشيخ سعيد بن أحمد الكندي في مسقط عقب عودتهما من الديار المقدسة بعد آداء فريضة الحج، و كان الوالي وأبناؤه يرسلون إلى الشيخ الكندي في دار إقامته الأموال و الهدايا، في حين كان الشيخ يضع تلك الأموال تحت الفراش الذي يقعد عليه، وعندما خرج من مسقط إلى موطنه في نزوى بعث إلى الوالي يخبره أنه ترك العطايا التي تلقاها منهم تحت الفراش، فلما كشفوا عن ذلك وجدوه كما أخبرهم. وهذه الحادثة تبين اهتمام والي مسقط بالعلماء، وزهدهم وحرصهم على نشر العلم بلا مقابل ولو على سبيل الهدية.


النِّتاج الفكري في عُمان:

أولا - العلوم الشرعية:
إستأثرت علوم الشريعة الإسلامية وعلوم اللغة العربية وآدابها بالنصيب الأكبر من النتاج الفكري العماني، و لا غرو في ذلك فتأثير العصر الإسلامي كان لا يزال ساريا منذ عدة قرون. وسنعرض فيما يلي لأهم العلماء الذين برزوا في هذه المجالات :

أ/ علوم القرآن الكريم وتفسيره:

أحجم علماء عمان ـ في الغالب ـ عن التأليف في تفسير القرآن بالرغم من سعة اطلاعهم و تأليفهم المصنفات بل الموسوعات الفقهية عبر عدة قرون. و لا توجد أسباب محددة لهذا الإحجام إلا ما يمكن أن يفهم  من خشيتهم من الوقوع في الخطأ في تأويل كتاب الله عز وجل، وهم في ذلك يختلفون عن إباضية المغرب الذين تعددت تفاسيرهم للقرآن منذ القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر الهجري ، فظهر منهم علماء مفسرون في (نفوسة) في ليبيا و (جربة) في تونس و (ميزاب) في الجزائر، و ربما يعود السبب في ذلك إلى أن أغلبية سكان هذه المناطق هم من الأمازيغ، و لذا كان لا بد من تقريب فهم القرآن الكريم للعامة باللغة التي يفهمونها. وبالرغم من المبدأ العام في عدم تفسير القرآن الكريم وجدت بضعة تفسيرات تطرقت لتفسير بعض السور و أحيانا بعض الآيات، و منها تفسير العلامة أحمد بن سليمان بن النظر (وهو من علماء النصف الثاني من القرن 6 هـ/ 12م)، و قد ورد تفسيره لبعض الآيات في كتابه (الدعائم) الذي يتكون من مجموعة قصائد اختصت أولاها بالتوحيد و تفسير آيات من القرآن الكريم. ومن التفاسير أيضا ما ورد في كتاب (منهج الطالبين و بلاغ الراغبين) للشيخ خميس ابن سعيد الشقصي، وهو أحد أركان دولة الإمام  ناصر بن مرشد اليعربي (1624 – 1649)، وقد أورد فصلا كاملا في تفسير بعض من القرآن الكريم وذكر فضائله. و ألف الشيخ سرحان بن سعيد الأزكوي( ت سنة 1150 هـ / 1737 م) تفسيرا بعنوان (البيان في تفسير القرآن الكريم)، و الواقع أنه تفسير غير كامل للقرآن  . أما التفسير الكامل الوحيد الذي تم العثور عليه فهو  (التفسير الميسر للقرآن الكريم) للعلامة الشيخ سعيد بن أحمد بن سعيد الكندي المتوفى سنة 1207 هـ / 1793 م.

التفسير الميسر للقرآن للشيخ سعيد بن أحمد الكندي:

يتصل نسب الشيخ سعيد بن أحمد بقبيلة كندة العريقة في العلم، وقد ظهر منها العلامة الكبير الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي مؤلف كتاب (بيان الشرع) الذي يقع في 72 مجلدا، و العلامة الشيخ أحمد بن عبد الله الكندي مؤلف كتاب  (المصنف) في 42 مجلدا، ويعتبر ذلك الكتابان من أهم مصادر الفقه الإباضي. ولد الشيخ سعيد في غضون الثلاثينيات من القرن 12 هـ / 18 م في نـزوى العاصمة التقليدية لعمان، و تتلمذ على أيدي كبار علماء عصره حتى نبغ وتبوأ المكانة العليا في مجتمعه، ثم وقعت فتنة في نزوى قتل على إثرها أحد أولاده، فطالبه قومه بالثأر إلا أنه امتنع عن المطالبة بالقصاص، و فضل مغادرة مدينته إلى قرية الهجار في وادي بني خروص، وهناك توافد عليه العلماء و طلبة العلم ومنهم الشيخ جاعد بن خميس الخروصي. و يبدو أن الشيخ الكندي شغل بالتعليم والمراسلات مع علماء عصره إذ لم يعثر له من المؤلفات عدا التفسير الميسر للقرآن الكريم، و تعقيب على كتاب (إحياء علوم الدين) للعلامة أبو حامد الغزالي ( ت 505 هـ / 1111م)  وأجوبة فقهية. ووجدت له أيضاً تعليقات على مواضيع متفرقة في تفسيري (الجواهر الحسان في تفسير القرآن الكريم) للثعالبي (ت 876 هـ/ 1471م)،  و (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي (ت 606هـ/ 1209) . و للكندي سير و نصائح في الزهد و الحكمة.وقد توفي الشيخ في نخل عام 1207هـ/ 1793 م.

يقع تفسير الكندي في ثلاثة أجزاء ويعد تفسيرا مختصرا، فرغ المؤلف منه في الثاني من ذي الحجة سنة 1181 هـ (20 أبريل 1768م). وقد اعتمد الكندي في تفسيره على بعض كتب التفسير المعتمدة عند أهل السنة و منها (جواهر القرآن) للإمام الغزالي، و (معالم التنزيل) للإمام البغوي (ت 510 هـ/ 1116 م)، و (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) لناصر الدين الشافعي ( ت 691 هـ/ 1292 م )، وأضاف إلى ما اختصره من هذه التفاسير ما كتبه الإباضية، كما اجتهد برأيه في التفسير مراعيا  في جميع ذلك الاختصار والإيجاز ليسهل على طلاب العلم. وقد اتصف منهج الكندي التفسير بعدة أمور من أهمها  أولا : إنه سهل العبارة سلس، قليل الترادف ، قريب المعنى. ثانيا : قليل التشعب في المعنى و اختلاف آراء العلماء ،  ثالثا : ينأى بنفسه عن التعصب للرأي و الاختلافات البعيدة عن الصواب. رابعا : لا يقف كثيرا عند مسائل الفقه والعقيدة ، و لعله أراد صياغة كتابه من حيث كونه مفسرا لا فقيها.

تعليق عبر الفيس بوك