التهويدة وصناعة الشخصية (1-2)

أ.د/ إيمان محمد أمين الكيلاني - الجامعة الهاشمية – الأردن


إنّ تاريخنا العربي يزخر بالنماذج العليا التي تصلح أن تكون مدرسة، نتعلمُ منها ونأخذُ منها العبرة بما يغنينا عن استيراد النموذج الغريب المصنَّع في الغرب، والذي لا يصلح بحال أن يكون لنا قدوة؛ لأنه باختصار لا ينبع من بيئتنا ولا ينسجم مع منظومة قيمنا.
إن ثوب الحرية الفضفاض الذي يصدّر لنا من الغرب اتسع و رَقَّ حتى طار، وكشّ وضاق حتى ضاقت به النفوس الحرة، ونحتاج إلى ثوب جديد واسع نصنعه بأيدينا، يناسبُ بيئتنا وطقسنا وطولنا وعرضنا وذوقنا المفتون بدقة الوشي المنمنم الذي يجمع بين البهاء والحياء، والعفة والقوة.
إن النموذج الثقافي الغربي، وفرضياته التربوية لا يناسبنا البتة، ولا يصلح أن يكون أساسًا جديدًا لبناء مستقبلنا إذا كنا نريد أن نؤدي رسالتنا بالأمر بالمعروف، والشهادة على الناس. ولا بد أن نستوحيّ من تراثنا النموذج المثالي لصياغة نظريتنا التربوية الحقة.
إن الاستلهام من التراث يعني أن نربط الماضي بالحاضر، ونصل الثمار بالجذور، وفي هذا ما يجعل الطفل يؤمن بأصالة فكره، ويدرك مدى إسهام أجدادنا في الثقافة والحضارة والإنسانية" .
ومن هذه النماذج الخالدة التي سكنت روحي منذ قرأت الحروف الأولى من تاريخ أجدادي العظام – امرأة قرشية يشهد لها التاريخ أنها من حرائر العرب، بل "من أحسن نساء قريش وأعقلهن" وما أدراك ما قريش؟ صفوة العرب رجالاً ونساءً، في الجاهلية والإسلام، إنها هندُ بنتُ عتبة، تروي كتبُ التراث مواقف من حياتها، من ذلك أنها كانت زوجاً لفاكه بن المغيرة المخزومي من فتيان قريش، وكانت له مضافة يدخلها الناس بغير إذن، وذات يوم قال فيه – (من القيلولة) - مع هند على غير العادة، ثم خرج عنها وهي نائمة، فجاء ضيف فدخل فإذا بها نائمة، فخرج مسرعًا صونًا لحرمة البيت وأهله، فرآه الفاكه، فدخل على هند فأنبهها، وقال لها: من هذا الخارج من عندك؟ فقالت: والله ما انتبهت حتى أنبهتني، وما رأيتُ أحداً قط. قال: الحقي بأهلك، وخاض الناس في أمرهم، فقال لها أبوها: أنبئيني شأنك، فقالت: والله يا أبت إنه لكاذب. فخرج إليه عتبة، فقال: إنك رميت ابنتي بشيء عظيم، فإما أن تبين ما قلت، وإلا فحاكمني إلى بعض كهان اليمن. قال: ذلك لك. فخرج الفاكه في جماعة من رجال قريش، ونِسْوَة من بني مخزوم، وخرج عتبة في رجال ونسوة من بني عبد مناف، فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيَّر وجه هند، وكسف بالها. فقال لها أبوها: أي بُنية، ألا كان هذا قبل أن يشتهر أمر خروجنا؟ قالت: يا أبت، والله ما ذلك لمكروه من قِبلي، ولكنكم تأتون بشرًا يخطئ ويصيب، ولعله أن يسمني بسمة تبقى على ألسنة العرب، قال أبوها: صدقتِ، سأخبره لك (أي سأختبر صدقه من كذبه وصوابه من خطئه)، فخبأ حبة قمح في مكان في جواده لا يخطر ببال؛ فلما نزلوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم. فقال له عتبة: إنا أتيناك في أمر وقد خبأنا لك خبيئة، فما هي؟ فحرزها الكاهن وذكرَ مكانها. قال: صدقت، فانظر في أمر تلك النسوة، فجعل يمسح رأس كل واحدة منهن ويقول لها: انصرفي لشأنك، حتى إذا بلغ إلى هند مسح يده على رأسها وقال: قومي غير رسحاء (أي غير قبيحة) ولا زانية، وستلدين ملكًا يسمى معاوية. فلما خرجت مبرئة فأخذ الفاكه بيدها فنترت يده من يدها، وقالت: والله لأحرصن أن يكون ذلك الولد من غيرك!
وذكروا أن هندًا قالت لأبيها: يا أبت، إنك زوجتني من هذا الرجل ولم تؤامرني في نفسي، فعرض لي معه ما عرض، فلا تزوجني من أحد حتى تعرض عليَّ أمره، وتبين لي خصاله. فخطبها سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب، فدخل عليها أبوها يخبرها شعرًا بذلك ويثني عليهما، ويخيرها في أمرها، فقالت: والله ما أصنع بهذا شيئًا، ولكن فسِّرْ لي أمرهما وبيِّنْ لي خصالهما، حتى أختار لنفسي أشدهما موافقة لي. فبدأ بذكر سهيل بن عمرو، فقال: أما أحدهما ففي سطة من العشيرة (أي من أوساطهم وأخيارهم)، وثروة من العيش، إن تابعته تابعك، وإن ملك عنه حط إليك، تحكمين عليه في أهله وماله. وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه، في الحسب الحسيب، والرأي الأريب، مِدْرُهُ أرومته، وعزّ عشريته، شديد الغيرة، كثير الطيرة، لا ينام على ضعة، ولا يرفع عصاه عن أهله. فقالت: يا أبت، الأول سيد مضياع للحُرّة، فما عست أن تلين بعد إبائها، وتصنع تحت جناحه، إذا تَابَعَها بَعلُها فَأَشِرَتْ، وخافها أَهلُها فَأَمِنَتْ، فساءت عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فمن خطأ ما أنجبت، فاطْوِ ذكر هذا عني، ولا تُسَمِّه لي، وأما الآخر فبعلُ الفتاة الخريدة ، الحرة العفيفة، وإني للتي لا أريب له عشيرة فتغيره، ولاتصيبه بذعر فتضيره، وإني لأخلاق هذا لموافقة، فزوجنيه، فزوجها من أبي سفيان فأنجبت له معاوية وقبله يزيد، وبقي رأي هند في سهيل بن عمرو غُصة في قلبِه وقال في ذلك شعرًا، فقال أبو سفيان: والله لو أعلم شيئًا يرضي أبا زيد سوى طلاق هند لفعلته!
وتزوج سهيل امرأة فولدت له ولدًا, فبينما هو سائر معه إذ نظر رجل يركب ناقة ويقود شاة، فقال لأبيه: هذه ابنة هذه؟ يعني الشاة ابنة الناقة، فقال أبوه: رحم الله هندًا! يعني يريد ما كان من فراستها فيه.
لقد تحققت نبوءة الكاهن في هند, ونبوءة هند في سهيل.
وذات يوم نظر رجل في معاوية وهو صغير فقال لأمه: إني أظن هذا الغلام سيسود قومه! فقالت: ثكلته إذن إن لم يسد غير قومه!
إن مثل هند لا ترضى لولدها أن يكون إلا سيدًا، ولاترضى أن يكون سيدًا لقومه فقط، بل لغيرهم, وإلا فالموت أولى به، وليس ذلك من قبيل الترف أو التبجح؛ بل إنه نتيجة طبيعية لخطة تربوية صاغتها هند الحرّة وشرَّبتها لولدها يومًا بيوم وساعة بساعة. إن أمًّا مميزة كهند لا ترضى لولدها إلا أن يكون سيدًا حقيقيًا، فبادئ ذي بدء اختارت له أبًا حرًّا له حضوره ورأيه في بيته وقبيلته، يملك زمام بيته، وربت نفسها على قيم المروءة، وأبت أن تكون زوجًا لرجل يتبعها، فهيأت بذلك البيئة المناسبة لاستنبات السيد الذي جمع بين شرف النسب عمًّا وخالا، وثقافة عصره من حفظ شعر العرب وأمثالهم حتى صار بعد الإسلام من كتبة الوحي، كما كان فارسًا جسورًا ذا مروءة وحكمة، كل ذلك جعله ذا حنكة سياسية عالية، وحجة فائقة تجسَّد ذلك بحق خطبه ووصاياه ورسائله.

تعليق عبر الفيس بوك