بأسلوب تعليمي شارح

العزوانية تستنطق "سيمياء العنوان" في القصة القصيرة العُمانية

الرؤية – محمد علي العوض

يتجاوز كتاب "سيمياء العنوان في القصة القصيرة" للكاتبة العمانية ثريا العزوانية الصورة المغايرة للنمط السائد في الخطابات النقدية الحديثة، التي تعج بتشعبات المصطلح وإشكاليّة التأويل؛ فقد جاء في ثوب بسيط دونما تفريط في ثراء المادة العلمية، وشارحا لما انغلق وأبهم من مصطلحات ومعاني الملفوظات السردية.

وتضمن الكتاب الصادر عن بيت الغشام ضمن سلسلة البرنامج الوطني لدعم الكتاب على مقدمة وفصلين وخاتمة. اشتمل الفصل الأول على ثلاثة مباحث، اختص أولاها بمصطلح السيميائية، حيث تناولت فيه الكاتبة طبيعة المصطلح عند العرب ثم الغرب، قبل أن تدلف لسيمولوجيا دوسوسير وسيموطيقيا بيرس. أما المبحث الثاني فقد خصته العزوانية بمصطلح العنوان لغة واصطلاحا ووظائفه، وعرضت قائمة لوظائف العنوان عند جينيت، وأهمية العنوان في العمل الأدبي؛ بوصفه إشارة أو علامة سيميائية لها دور كبير في التواصل مع النص لكونها أنظمة تحمل قيما اجتماعية وأخلاقية وسياسية، وتؤدي وظائف فنية وجمالية وبصرية (أيقونية) سواء في العنوان الرئيسي بفضاء الصفحة أو في العناوين الفرعية داخل المتن.

وأفرد المبحث الثالث من الكتاب مساحة خاصة للقصة القصيرة في سلطنة عمان، بوصفها فرعا من فروع شجرة الإبداع والأدب العماني الذي ما زال يثري الأدب العربي بإبداعاته الأدبية شعرًا ونثرًا، وأسهبت فيه الكاتبة بالحديث عن مصطلح القصة والهدف من كتابتها وأنواع القصص وعناصرها من: لغة وشخوص وحدث ومكان وصراع، وطافت بنا عبر تاريخ القصة القصيرة في السلطنة. عازية تطور القصة العمانية للتغير السياسي والنهضة التي شهدتها عمان، والتي أدت إلى تغيير شمل كافة مناحي الحياة، مشيرة إلى أن العام 1970 يعد ضربة البداية الحقيقية لبروز أشكال جديدة من طرق التعبير والكتابة؛ حيث ظهرت حينها كتابة المقال والخاطر الأدبية ثم القصة القصيرة والمسرحية والرواية..

وتؤرخ العزوانية لبداية القصة القصيرة في عمان بالكتابات الأولى للأديب الراحل عبد الله الطائي، في قصصه: "اختفاء امرأة" و "آسف" و"خيانات" التي كتبها في العراق عام 1940 ثم محاولات الطائي نفسه الأخرى في ستينيات القرن المنصرم، إلى أن جاء بعده محمود الخصيبي وسعود المظفر؛ اللذين أسسا لكتابة القصة القصيرة وفق مقتضيات العصر وتطور التقنيات السردية حينها، مشيرة إلى أنّ غياب التوثيق التاريخي وضعف الرصد سابقا أوجد لغطا واختلافا حول تاريخ صدور أول مجموعة قصصية عمانية.

اشتمل الفصل الثاني على مبحثين يمثلان الجانب التطبيقي للبحث، والجزء الأهم في الكتاب؛ حيث تطرق المبحث الأول من هذا الفصل لببليوغرافيا القصة القصيرة في سلطنة عمان، وغطت هذه الببليوغرافية 123 مجموعة قصصية لـ 73 كاتبا وكاتبة من عمان. وتم فيها عرض المجموعات القصصية الصادرة في عمان منذ العام 1980 وحتى 2010 (حسب الترتيب الأبجدي للمؤلف) مع عرض معلومات النشر.

وناقشت الكاتبة في هذا المبحث أيضا وظائف العنوان ودلالته في القصة القصيرة بسلطنة عمان، حاصرةً إيّاها -أي الوظائف- في أربعة عناصر بحسب ما أوردها جيرار جينيت وهي: تعيينية، وصفية، وإيحائية، وإغرائية.

واختارت العزوانية في المبحث الثاني من هذا الفصل نماذج تطبيقية على بعض الإنتاجات القصصية كخطاب المزروعي في مجموعته "لعنة الأمكنة"، ورحمة المغيزوي في مجموعتها "كاذية بنت الشيخ" وزوينة الخلفانية في مجموعتها "المرأة الواقفة تجلس" وسليمان المعمري في مجموعته "ربما لأنّه رجل مهزوم" وعلي الصوافي في مجموعته "كورون أو الماء باتجاهين" وفايزة اليعقوبية في "سغب الجذور" وهدى الجهورية "نميمة مالحة" وبشرى خلفان في مجموعتها "غبار" وسالم آل تويه في مجموعته "حد الشوف" وأزهار أحمد في مجموعتها  "أنا ويوكي" وبشرى الوهيبية في "صائد الفراشات الحزين".

ومن بين النماذج التي تناولتها وسم مجموعة سليمان المعمري القصصية "ربما لأنّه مهزوم" بوصفه العتبة الأولى في النص والمفتاح الذهبي وشفرة التشكيل والإشارة البارزة التي يرسلها الأديب/ الشاعر إلى المتلقي. وقالت العزوانية إن العنوان يحمل وظيفة (تعيينية) فالمتصفح للمجموعة يلحظ في نصوصها تكرار نموذج الشخصية المهزومة، فهذا الرجل المهزوم الصفة الأبرز له هي هزيمته وسلبيته وخنوعه للواقع، فهو يتسكع في الشوارع مفلسا خالي الجيب، خاوي الروح، مستغرقا في إحباطاته الداخلية ومناجاة نفسه مليئا بالسأم: "لا شيء جديد.. نفس الأزقة الملتوية كثعبان متحفز لنفث سمه.. نفس الوجه معدومة التعابير.. نفس الأطفال المعفرة وجوههم بالغبار والسذاجة.. نفس البيوت.. نفس الأشجار.. نفس الأعمدة السوداء المثبتة عليها أسلاك الكهرباء.. نفس العامل الآسيوي الذي يسقي العشب.. لا أدري ما الذي يدفعني إلى التسكع فيها يوميا".

ويتكرر ذات النموذج الانهزامي في قصة أخرى في نفس المجموعة، حيث يشعر السارد أو البطل بالمشاعر السلبية نفسها: "كأعمى عافه البصر، وجفته البصيرة، أجرجر قدمين تحملان فوقهما كتلة من اللحم الجاف.. جيوبي الأنفية معبأة برائحة يأس.. لي الآن الوحدة والحزن والسأم.. ولك وحدك أيها الضجر أن تتلبسني الآن كجني"، فالبطل ليس شخصية متغيرة بتغير النصوص "هناك نوع من الفردية حاضرة" فهذا الرجل البائس بكل مشاعره السلبية حاضر في كل قصة؛ كأنه يتنقل من قصة لأخرى داخل المجموعة.  

اعتمدت الكاتبة -كما ذكرت في مقدمتها- على ثلاثة مناهج أساسية في البحث؛ هي المنهج السيميائي لاستكناه معاني الملفوظات الأدبية والوقوف على دلالات النص والمفردات، وكذلك المنهج الإحصائي الذي أفادت منه في تقديم ببليوغرافيا دقيقة للقصة العمانية، وثالثا المنهج التأويلي باعتباره أحد أهم المداخل النقدية لإضاءة العنوان القصصي؛ الذي صار فضاء ممثلا بالرموز والأساطير والمفارقة وتكثيف اللغة وتداخل الأنواع من أجل الوصول إلى المعاني العميقة التي تنطوي عليها المجموعات القصصية والكشف عن الدلالات المتوارية خلف النصوص مما يسهم بوعي في إنتاج وجهة النظر التي يتحملها الخطاب.

تميّز الكتاب بسلاسة اللغة ودقة شرح المصطلحات وتجليتها بأسلوب واضح، وسيفيد منه الباحثون والمتخصصون إذا ما قُّدر لهم قراءاته، فهو كتاب تعليمي بامتياز.

تعليق عبر الفيس بوك