سؤال في التفسير:

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (16)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيديّ – جامعة نزوى

 

عن قوله تعالى:
قال تعالى: في الآية 17 من سورة لقمان: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. ومن خلالها سألني تلميذي النَّابه قائلا لي: كلما قرأت هذه الآيات الكريمات أشكل عليّ (فعل الأمر) زمناً وإسناداً، فما حقيقة ذلك؟
قلتُ له: انقسم النحاة في دلالة (فعل الأمر) على الزمن فريقين:
الأول: جعله دالا على زمان ما، وفي هذا ثلاثة آراء:
(1)    أنه يدل على المستقبل، وهذا ما أشار إليه سيبويه بقوله: "ما يكون ولم يقع... فإنه قولك آمرا: اذهبْ"(1). وتابعه جمهرة من النحاة القدامى، فنصُّوا على أنه: "مستقبل بالوضع"(2). أو "وهو لازم الاستقبال"(3). ومن المعاصرين: من رجح دلالته على المستقبل فقال: "زمان الأمر مستقبل في أكثر حالاته"(4).
وقال آخر: "إنما نلمح فيه غالبا المستقبل القريب أو البعيد"(5). ورأى ثالث: "والصواب في نظري هو ما ذهب إليه النحاة الأوائل ومن نحا نحوهم، وخاصة البصريين منهم وذلك أنّ الأمر هو فعل لطلب فعل الشيء في المستقبل"(6).
(2)     ومنهم من ذهب إلى دلالته على الحال(7). وهذا ما لحظه أحد المعاصرين فقال: "لا يكادون يختلفون في تخصيص زمنه بالحال"(8)
(3)     ومنهم من جعله دالا على الحاضر والمستقبل، وليس فيه رجحان أحدهما على الآخر، وهذا ما سلّم به تمام حسان(9).
(4)     ومنهم من دعا إلى النظر في العلامات الخاصة التي تميز كل نوع من أنواع الفعل، وجعلها الأساس في التمييز بينها(10).
ثانيا - أما الفريق الثاني فرأى خلو فعل الأمر من الزمن فلم يشر إلى ذلك: عبدالقاهر الجرجاني (11)، ولا الرضي الاستراباذي (12)، وذهب إلى هذا قسم من الأصوليين(13) ومن المعاصرين: إبراهيم مصطفى(14)، ومهدي المخزومي(15)، وريمون طحان(16)، وإبراهيم السامرائي(17)، وأحمد عبدالستار الجواري(18)، وانتهى مالك المطلبي "إلى أن الزمن ليس جزءا من مدلول صيغة الفعل"(19).
وخلص أستاذنا الجليل فاضل السامرائي من اختلاف النحاة قديما وحديثا في دلالة فعل الأمر على الزمن بقوله: "والحق أن تحديد زمن فعل الأمر بما هو مذكور... فيه نظر إذ هو أوسع من ذلك:
1)    فقد يكون فعل الأمر دالا على الاستقبال المطلق سواء أكان الاستقبال قريبا أم بعيدا...
2)    وقد يكون دالا على الحال...
3)    الأمر الحاصل في الماضي...
4)    الأمر المستمر...
5)    وربما كان فعل الأمر مطلقا غير مقيدّ بزمن... وهو كما ترى أيضا خالٍ من الدلالة على زمن معين، فقد تبيّن أن زمن فعل الأمر لا ينحصر فيما ذكره النحاة"(20). فالسياق هو ما يحدد الدلالة الزمنية، وليس الصيغة (21).
"والذي يبدو أن صيغة الأمر هي صيغة فعلية لا تخلو من دلالة زمنية وأنّ لها من القرائن اللفظية أو المعنوية ما يكشف عن زمنها في الاستعمال"(22). وهذا ما كشف عنه استقراء أستاذنا فاضل السامرائي، وهو ما نسلّم به، ونركن إليه.
أما من حيث الإسناد فأجمع النحاة على علاقة اللزوم بين الفعل والفاعل إلا الشيخ محمد عبده إذ قال في تعليقه على قوله تعالى: (وكفى بالله حسيبا. من الآية 6 من سورة النساء): "إنّ (كفى) فعل ليس له فاعل، والجار والمجرور متعلق به"(23).
وانفرد أحمد عبدالستار الجواري(24)، ومهدي المخزومي(25)، وقيس إسماعيل الأوسي(26) أن ليس في فعل الأمر إسناد. وهذا يجرنا إلى ما للنحاة من تعريفات عدة للفاعل، ولكن ما أركن إليه قول فاضل السامرائي من أنه: "من كان الفعل حديثا عنه سواء قام بالفعل أم لم يقم"(27).
وقد يبقى طرفا الإسناد معلقين في أساليب معروفة كالنفي، والاستفهام، والشرط، ومثلها فعل الأمر.
أما صيغ الأمر فقد تعددت عند النحاة والبلاغيين والأصوليين:
•    فعند النحاة: فعل الأمر، والمضارع المسبوق باللام، والمصدر النائب عن فعله، واسم فعل الأمر(28).
•    وعند البلاغيين: يدرجونه في أساليب الطلب الثمانية (29).
•    أما عند الأصوليين فهي أوسع فقد أضافوا لما تقدّم ألفاظا أخرى: أمرتك، أنت مأمور، كتب، فرض، قضى، أوحى، الخبر الذي يخرج إلى الأمر، والاستفهام المتضمن معنى الأمر، فضلا عن تقسيمهم الأمر إلى واجب، ومحظور، ومندوب، ومكروه، ومباح (30)
ويخرج عندهم مجازا إلى خمسة عشر وجها. وقال غيره على أكثر من ثلاثين وجها(31).
ويخرج عند البلاغيين إلى معنى (32).
وفي عرضنا هذا تبيّن لك يا ولدي ما قيل في فعل الأمر زمنا وإسنادا عند النحاة والبلاغيين والأصوليين. فاستدرك تلميذي النجيب قائلاً: هل لك في تذييل (فعل الأمر) بعرض ما يسمى (الوجوه والنظائر) في مفردة ( أمر ) لتستكمل ما له علاقة به؟.
فقلت: لعلك تقصد ما ذهب إليه أبو عبد الله الحسين بن محمد الدامغاني (ت478هـ) في كتابه (الوجوه والنظائر لألفاظ القرآن العزيز) فذكر أن لفظ (الأمر) على ستة عشر وجها فحاك في صدري أن تقفني على مصطلح (الوجوه والنظائر)، وهل هو (المشترك اللفظي)؟ وكيف توجه ما قاله الدامغاني؟
قلت: دعنا نعرض الوجوه الستة عشر التي ذكرها الدامغاني، ثم نتولى إيضاح ما حاك في صدرك:
............................................
المراجع والهوامش:
(1)    الكتاب، تحقيق عبدالسلام هارون، دار الجيل/بيروت، ط1، د.ت، 1/12
(2)    الشلوبين: التوطئة، تحقيق يوسف أحمد المطوع، دار التراث للطباعة/ القاهرة، ص33. - وينظر: ابن يعيش: شرح المفصل، عالم الكتب/بيروت، د.ت، 7/59.
(3)    المبرد: المقتضب، تحقيق محمد عبدالخالق عضيمة، نشر المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية، لجنة إحياء التراث الاسلامي/ القاهرة، سنة 1399هـ، 1/221. ومثله ذهب ابن مالك فقال: "والأمر مستقبل أبدا". تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، تحقيق محمد كامل بركات، دار الكاتب العربي/القاهرة، سنة 1986م، ص4. ومن المعاصرين: عبدالصبور شاهين: المنهج الصوتي للبنية العربية -رؤية جديدة في الصرف العربي- مطبعة جامعة القاهرة والكتاب العربي، سنة 1977م، ص61.
(4)    عباس حسن: النحو الوافي، دار المعارف/القاهرة، ط9، سنة 1987م، 1/65.
(5)    إبراهيم أنيس: من أسرار اللغة، مكتبة الانجلو مصرية/القاهرة، ط8، سنة 2003م، ص147.
(6)    عبد الله بو خلخال: التعبير الزمني عند النحاة العرب منذ نشاة النحو العربي حتى نهاية القرن الثالث الهجري – دراسة في مقاييس الدلالة على الزمن في اللغة العربية وأساليبها، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائرية/ الجزائر، تاريخ المقدمة 1985م، ص145.
(7)    تنظر: مقولة السكاكي (ت616هـ) إن الأمر والنهي حقهما التراخي.
-    في مفتاح العلوم، تحقيق أكرم عثمان يوسف، دار الرسالة/بغداد، 31، 1981م، ص545.
-    وتنظر: حاشية السيد علي القزويني على القوانين، طبع هجري 1/97 = نقلا عن مصطفى جمال الدين: البحث النحوي عند الأصوليين، دار الشؤون الثقافية/بغداد، ط1، سنة 1980م، ص154.
-    وينظر: محمود الهاشمي: مباحث الدليل اللفظي، تقريرات السيد محمد باقر الصدر، مطبعة الآداب/النجف، سنة 1977م، ص 345-346.
-    وينظر: صالح الظالمي: تطور دراسة الجملة العربية بين النحويين والأصوليين، مطبعة النجف الأشرف/العراق، ط3، سنة 1429هـ، ص141.
(8)    إبراهيم أنيس: من أسرار اللغة، ط147.
(9)    ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها، عالم الكتب/القاهرة، ط5، سنة 2006م، ص105. - وينظر: عصام نور الدين: الفعل والزمن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر/بيروت، ط1، سنة 1984م، ص94.
(10)    ينظر: علي أبو المكارم، الجملة الفعلية، مؤسسة المختار/القاهرة، ط1، سنة 2007م، ص43.وكرر رأيه هذا في: إعراب الفعل، دار غريب/القاهرة، د.ط، سنة 2010م، ص29.
(11)    ينظر: الجمل، تحقيق علي حيدر، دار الحكمة/دمشق، د.ط، سنة 1972م، ص5.
(12)    ينظر: شرح الرضي على الكافية، تحقيق يوسف حسن عمر، منشورات جامعة قار يونس/بنغازي، ط2، سنة 1996م، 4/123. - وينظر: ياسين العليمي: حاشية ياسين على التصريح، مطبعة فيصل الحلبي/القاهرة، د.ط، 1/56. إذ نقل عن الدماميني قوله: "إن أفعال الإنشاء إنما قلنا بتجردها عن الزمان من حيث هي إنشاء والأمر لا دلالة له على الزمان بحسب الوضع من حيث إنشائيته". وإلى هذا ذهب: سعود بن غازي أبو تاكي في كتابه: صور الأمر في العربية بين التنظير والاستعمال، دار غريب/القاهرة، ط1، سنة 2005م، ص255.
(13)    ينظر: حسن بن زيد الدين العاملي (ت1011هـ): معالم الدين، طبع بيروت، ص216. وينظر: مصطفى جمال الدين: البحث النحوي عند الأصوليين، دار الشؤون الثقافية/بغداد، ط1، سنة 1980م، ص154.
(14)    ينظر: إحياء النحو، القاهرة، ط2، 1992م، ص6.
(15)    ينظر: في النحو العربي نقد وتوجيه، دار الرائد العربي/بيروت، ط2، سنة 1986م، ص120.
(16)    ينظر: الألسنية العربية، دار الكتاب العربي/بيروت، ط1، سنة 1972م، 1/146.
(17)    ينظر: الفعل زمانه وأبنيته، مؤسسة الرسالة/بيروت، ط3، سنة 1983م، ص21.
(18)    ينظر: نحو الفعل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت، طبعة جديدة، سنة 1983م، ص24.
(19)    الزمن واللغة، الهيئة المصرية العامة للكتاب/القاهرة، د.ت، سنة 1986م، ص120. وينظر: صالح الظالمي: تطور دراسة الجملة العربية بين النحويين والأصوليين، مطبعة النجف الأشرف/العراق، ط3، سنة 1429هـ، ص213-214.
(20)    معاني النحو، دار الفكر/عمّان، ط2، سنة2002م،4/27-33.
(21)    ينظر: تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، عالم الكتب/القاهرة، ط5، سنة 2006م، ص104. وينظر: علي شلق: الزمان في اللغة العربية والفكر، دار ومكتبة الهلال/بيروت، ط1، سنة 2006م، ص100-101.
(22)    ليث أسعد عبدالحميد: الزمن النحوي في الشعر الجاهلي، دار الضياء/عمّان، ط1، سنة 2006م، ص69. - وينظر: ج.فندريس: اللغة، ترجمة عبدالحميد الدواخلي ومحمد القصاص، د.ت، تاريخ المقدمة سنة 1950م، ص135-139.
(23)    الأعمال الكاملة للأمام الشيخ محمد عبده، تحقيق: محمد عمارة، دار الشروق/القاهرة، د.ت، سنة 2009م، 2/189.
(24)    ينظر: نحو التيسير، مطبعة مجمع العلمي العراقي/بغداد، ط2، سنة 1984م، ص125.
(25)    ينظر: في النحو العربي قواعد وتطبيق، دار الرائد العربي/بيروت، ط3، سنة 1985م، ص27.
(26)    ينظر: أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، مطبوعات بيت الحكمة/بغداد، سنة 1989م، ص130.
(27)    معاني النحو، دار الفكر/عمّان، ط2، سنة 2002م،2/39.
(28)    لم يبحث النحاة صيغ الأمر في موضع واحد، بل وزعوها، في المضارع وإعرابه، والمفعول المطلق، وأسماء الأفعال!
(29)    ينظر: قيس اسماعيل الأوسي: أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، فقد درسها مفصلا. - وتنظر: حفيظة أرسلان شابسوغ: الجملة الخبرية والجملة الطلبية، عالم الكتب الحديث/إربد/الأردن، د.ت، سنة 2004م، إذ عدّت جمل الطلب خمسة: جملة الاستفهام، جملة الأمر، جملة النهي، جملة النداء، جملة التمني، الفصل الثاني: الجملة الطلبية من ص209 إلى ص263.
(30)    ينظر: إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك بن عبدالله الجويني (ت478هـ)، البرهان في أصول الفقه، تحقيق: عبدالعظيم محمود الديب، دار الوفاء/المنصورة/مصر، ط1، سنة 1992م، 1/213.

تعليق عبر الفيس بوك