شوقي عبد الأمير في "أنا والعكس صحيح" مثيولوجيةٌ حديثةٌ

أحمد حمد - العراق

 

"لقد نفتنا الآلهة غرباءَ حتّى مع أنفسنا
نجوسُ أزمنةَ التّاريخ والمُستقبل
دونَ قيثاراتٍ
هكذا كان حكمُنا الأبديُّ
رحلةُ بحارةِ يعشقون النبيذ
"نص لشاعر سومري مجهول"
القيثارة والقربان، شوقي عبد الأمير مجلة بيت ص49، العدد الأول
نصُّ الشّاعرِ يوحي وكأنّ ذاكرةَ الشّاعر مَخزنٌ يحتوي تُراثاً متنوّعَ الأزمنةِ والثّقافاتِ، فبدأ زمانُ الشّاعر ابتداءً من سومر، إذ يمدّها ويغذّيها بمكونات التّواصل وعمليّات الإبداع المفعّلة لكينونَته واستمراريّته سلسلة من الترابط المعنوي بين رؤية الشاعر المعاصر وتراثه، فتغدو عنده الأسطورة والتّراث وكأنّها عوالم يسبغها من ذاته تنبثق من أغوار النفس والرؤية الشعرية لتكون نصاً شعرياً قائماً بذاته.
هذا الخزين المُتعالي المُرتكز في ذاكرة الشاعر وروحه يجعلُك تظُنُّ أنّك تقرأ نصّاً سومريّاً. أكمل طريقَهُ إلينا فبدا وكأنّهُ أشراقَ من عُمقِ جُذورِ تاريخِهِ وكأنهُ يستجيبُ لنداء ذاكرة الطّين والقصب وخُيوط دُخان الفجر.
ظلّ شاعرُنا مجبولاً بتُراب سومر، فهو ابنُ الأُسطورة والتُّراث والدّروب المثيولوجية. هذا التّلازمُ الرّوحيُّ ظلّ موجوداً في المكان وكأنّهُ يُشير إلى غَيرِهِ مِن بعيدٍ، بعيد الأنا الّتي تبحثُ عن عكسها الصحيح عبر صيغ انعكاس المرايا، أي: أنها الأنا الساكنة في مرآة عكسها والوجه الثاني للذات.
والمرايا التي يعبُرُ منها الى عوالم قصيدته احتضنت الشعر وكان الشعر حاضنتها ايضاً. (أنا والعكس صحيح) الصادر عن دار بيسان ، ط1، 2016م . حوار بين (أنوين/ مثنى أنا)، إنه أثيرُ الرغبة الذي يعكس الحضور بالغياب عبر الضّوء والكلمات، فغدت الكتابة عنده كبيتِ الغريب الذي يبحث عن حضوره الآخر عبر فضاء الزمن القصيّ، إنّها رغبةُ الحُضور على الرغم من الغياب الواقعيّ.
يستقي الشّاعرُ من استدعاء الماضي رؤيتَهُ للحاضرِ، فَرَفَدَ نَصَّهُ الشّعريَّ -عن طريق ما هو رمزيّ وأسطوري وتاريخي- باختراق كلّ ما هو حضاريّ لماضٍ غير حضاريّ يحمل معهُ أسطورته الأولى، إذ يُمسِكُ آلةَ الزّمنِ ويرفُضُ الذّوبان.
انها مثيولوجيةٌ حديثةٌ يصوغُها بحاسّة العِتقِ التّاريخي، أي: الماضي الحاضر من أجل الحاضر.
قصيدتُه عربيّةٌ عربيّةّ، وجزالة السّرد عنده تُسبِـغُ بُنيان القصيدة من غير أن يبسط الهم اللغوي غلواءه وهيمنته بالإغراء والافتتان على القصيدة، فعلى الرّغم من اغترابه الّذي دام خمسةً وثلاثين عاماً إلّا أنّ قصيدتَهُ لم تتأثّر بالاغتراب الثّقافيّ أو النَّسَقيّ مُقارنةً بشُعراء النّسَق الشّعريّ القريب من الشعر المترجم.
بل كان أسلوبه فيها أسلوباً مميزاً لا يعتمدُ الغموضَ كظاهرةٍ مُهيمنةٍ تَحولُ دونَ فَهم النّصّ وفَكّ شفراتِه، فلا تربو أشعارُه على أجنحة الانسلاخ عن اللغة وبلاغة الغموض بصورة مكثفة ومعقدة بقدر ما تحمل غيوماً مُثقَلَةً بالخصب وماء الشِّعرِ.. شوقي عبد الأمير: شاعرٌ لم يتأثّر إلّا بنفسه، وقصيدتُه لا تتبنّى الحداثة كثورةٍ على القديم بقدر ما هي تضمينٌ للقديم والحديث، وهو القائل "علّمتني الغُربةُ أن أنظُرَ إلى لُغَتي مِن بعيدٍ".
يقول أبو تمّام "اغترب؛ تتجددِ".
أما القسم الآخر من الكتاب فهو: كشفٌ في لحظة انفلتت من قيد الزمان والمكان، ونظرة تنفذ من الواقع الى ما وراء الواقع، وضرب من المهارة والذوق تدور في فلك المعراج الصّوفيّ.
"طبائع الكهرمان أو الكتابةُ بقلم جلال الدين الرومي"
.......................
مختارات من قصيدة "في قارب فوق النار"
من بابل أعرفُ أن الغربة ليست نفياً
عن أرضٍ عن شعبٍ عن لُغةٍ
إنّما هي تيهٌ في الجسد والازمنة
من بوذا
أعرف أن الأرواح ليست امتيازاً للكائنات الحيّة فقط
وأنّ علينا البحث عنها في كلّ ما نرى
والعُثور عليها خارج الأحياء نبوءة
من اللغة العربية
أعرف أنها عبدت مرتين
وأنها كانت ولمّا تزل أكبر الأوثان التي تحيا بين ظهرانينا
من الحلاج
أعرف أن الله قد يحل فيَّ لا العكس
من حكيمٍ هندي
أعرف أن الجسد أنبوبة اختبارٍ
يُجددها الروح في كل مرة تفشل فيها التجربة
وأن الأرواح ملونة لكل لونٍ سحنةٌ وأخلاقٌ وطباعٌ
يمكن رؤيتها بالعين
من فلاح في مسقط رأسي
أعرف أن النخلة التي تُجنى أعذاقُها
قبل الأوان تغضبُ وتشجبُ
فلا تُثمِرُ في العام التّالي
وقد يطول غضبُها سنواتٍ

تعليق عبر الفيس بوك