السِّياسَة الرُّوسيّة.. حَالة ما بعدَ انهيار القُطبيّة

ماهر القصير – السعودية
باحث في السياسة الدولية


 تبنّى يلتسين ورئيس وزرائه إيغور غيرار ابتداء من مطلع العام 1992وبناءً على نصائح صندوق النقد الدولي, برنامج “العلاج بالصدمة” الذي يتضمّن إبعاد الدولة كلياً عن الساحة الاقتصادية لصالح القطاع الخاص عبر مجموعة إجراءات, منها التحرير الكامل والسريع للأسعار والخصخصة على نطاق واسع وتحرير التجارة الخارجية وإغراء الرساميل والاستثمارات الأجنبية. لكنّ ردّ الاقتصاد السريع على هذه الإجراءات كان سلبياً: تراجع متسارع لسعر "الروبل الروسيّ"؛ وتراجع معه الناتج الداخلي الإجمالي بنسبة 20 في المئة عام 1992 ثم 22 في المئة عام 1993 و15 في المئة عام 1994 ثم 4 في المئة عام 1995؛ وتراجع الناتج الصناعي في هذه السنوات على التوالي بالنسب التالية: 18 في المئة, 4 في المئة, 21 في المئة, وتراجع الاستثمارات 40 في المئة, ثم 12 في المئة عام 1995. أما في عام 1996 فقد بلغ تراجع الناتج المحلّي ستة في المئة. وبالتالي زاد تراجع الناتج المحلي والإنتاج الصناعي عن 40 في المئة أي بنسبة عشرة في المئة سنوياً ما بين 1990 و1995, في مقابل نموّ سنوي بلغ اثنين في المئة بين 1980 و1990.
وفي محاولة لمنع الانهيار, قررت الحكومة الالتفات إلى قطاع الطاقة (إنتاج النفط تراجع إلى النصف في أقل من عشر سنوات) والذي كان يحتلّ حيّزاً واسعاً وفاعلاً في الاقتصاد الروسي (البترول وحده يشكّل 15 في المئة من صادرات البلد عبر توجيهه إلى التصدير الخارجي البعيد, بعد اقتصاره على الاستهلاك المحلي والتصدير إلى المحيط القريب والدول الفقيرة.
لكن إصلاح هذا القطاع كان لا بدّ أن يتمّ على حساب القطاعات الأخرى مثل البناء والتجهيزات والمجمّع العسكري ­ الصناعي. وزاد الأمور سوءاً انخفاض سعر النفط العالمي, فصارت معظم الشركات عاجزة عن دفع رواتب موظفيها, وتراكمت الديون الداخلية بين الشركات ولم تعد الدولة قادرة لا على دفع رواتب الموظفين والعسكريين ولا على جباية الضرائب.
 يمكن القول إن الإصلاحات الروسيّة لم تملك برنامج عصرنة واضح بل قامت بتنظيم انتقال سريع وعشوائي لأملاك الدولة إلى القطاع الخاص, وذلك على أساس المحسوبيات وعلاقات النفوذ, في غياب أي نظام تشريعي وقضائي مناسب. ومن النتائج الكارثية لذلك فقدان الثقة بالدولة وعجزها الواضح عن السيطرة على الوضع. وهكذا فإن “العلاج بالصدمة” كان أشبه بحرب شاملة على اقتصاد الدولة الذي صارت تسيطر عليه المافيات وما يسميه الروس بـ “الأوليغارشيين” أي الأثرياء الجدد أصحاب النفوذ والاحتكارات.
وقد عاشت القيادة السياسية التي تدير عملية التحوّل من الاقتصاد الموجّه إلى اقتصاد السوق الليبرالي, حالة تخبّط من أولى تعبيراتها الصريحة كان الصراع المكشوف بين الرئيس والبرلمان, عام 1993, الذي كشف عن عجز الطبقة الحاكمة عن التخلّص من رواسب الماضي, فطريقة ممارسة اللعبة السياسية لم تدلّ على قطيعة نهائيّة مع ممارسات الماضي. التي يجري انتقادها. ذلك أن “قيصر روسيا المريض” يلتسين ما انفكّ يعيّن ويقيل رؤساء الوزراء على إيقاع حالته المرَضيّة النفسيّة والصحيّة التي استلزمت انقطاعاً عن الحكم مرّات عديدة بسبب ملازمة الفراش أو الدخول إلى المستشفى.
أما الاستثمارات الأجنبية التي كان يعول عليها كثيراً في عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق, فلم تتخطّ نسبة الأربعة في المئة من مجموع الاستثمارات. والعشرة مليارات دولار أو الإثنا عشر مليار دولار التي دخلت إلى روسيا عام 1998 توجّهت كلها تقريباً صوب سندات الخزينة ذات المردود العالي. وكان لهذه المضاربات أسوأ الأثر على الاقتصاد الروسي الذي كان يُهرَّب منه حوالى مليار دولار شهرياً إلى الخارج (تهريبات, تحويلات شركات, مضاربات). وقد جُنَّت الأسواق المالية نتيجة عدم القدرة على تسديد جزء من سندات الخزينة البالغة 40 مليار دولار مما أدّى إلى تعطيل النظام المصرفي وشلله. وقد استُنفد احتياطي المصرف المركزي من الذهب والنقد في عمليات تدخّل غير مجدية من أجل دعم العملة الوطنية. فبعد أن كان هذا الاحتياطي يبلغ عشرين مليار دولار في أوائل 1997, هبط إلى 11,6 مليار دولار.
كانت موسكو لم تستكمل ترتيب العلاقة مع “الخارج القريب” داخل الفضاء السوفياتي السابق الذي “يحتوي مصالح حيوية بالنسبة لروسيا” اقتصادية وسياسية وأمنية, كما أعلن يلتسين في 14 أيلول 1995, فإن العلاقة مع “الخارج البعيد” لم تأخذ مساراً ثابتاً حتى نهاية عهده. فعدا الخلافات القديمة مع اليابان والصين وتوثيق العلاقات مع إيران والهند والدول الحليفة للسوفيات سابقاً, مثل سوريا وغيرها, فإنّ العلاقة مع الغرب كشفت عن ضعف مريب, من مظاهره اضطرار موسكو للإذعان لرغبة واشنطن بتوسيع حلف الأطلسي شرقاً, الأمر الذي كانت موسكو تعتبره تهديداً غير مقبول لأمنها.  وفي محاولة لإرضائها, أفرجت الولايات المتحدة عن مساعدات مالية وعينية لموسكو, ووافقت على إدخالها بصفة مراقب في مجلس حلف الأطلسي دون حق استخدام النقض ­ الفيتو (ما يسمى بمجلس 16x1) بعد قمّة يلتسين ­ كلينتون عام 1997. وفي الذكرى السنوية الخمسين لتوقيع معاهدة واشنطن التي أنشأت حلف الأطلسي (آذار 1999), دخلت تشيكيا وبولونيا وهنغاريا رسمياً في هذا الحلف الذي بات يضمّ 19 دولة, بعد تعهّد واشنطن بعدم نشر أسلحة نووية في هذه البلدان التي كانت جزءاً من المعسكر الشرقي السابق وحلف وارسو.
ووسط هذا التردي بالحالة السياسية والحالة الاقتصادية لروسيا الجديدة بدأت الولايات المتحدة في الاقتراب من أطراف الساحة الجيوسياسية لروسيا؛ حيث استطاعت أن تتدخل في البلقان وفي 24 آذار 1999, وبدأت عملية حلف الأطلسي, ضد حليفة روسيا صربيا الأرثوذكسية بعد تفكيك يوغسلافيا في تسعينيات القرن الماضي، واستمرّ القصف الجوي المركّز للأراضي الصربية أسابيع عديدة دون أن تقدر موسكو على مدّ يد العون لحليفها الرئيس ميلويفيتش. وعندما صدرت تصريحات متشدّدة من صفوف القيادة العسكرية الروسية وتحرّكت بعض قطع الأسطول الروسي صوب منطقة النزاع, خشي مراقبون كثيرون من اندلاع حرب نووية بسبب تفوّق حلف الأطلسي على روسيا في السلاح التقليدي مما قد يدفعها إلى استخدام, ولو محدود, للأسلحة النووية.
ولكن لم يحصل شيء من هذا, بل إن رئيس الوزراء بريماكوف بدا مرتاحاً لزيارة مدير صندوق النقد الدولي, إلى موسكو, في نيسان 1999 والتي أفرج فيها هذا الأخير عن مساعدة قدرها خمسة مليارات دولار لروسيا. وقد كشف “البروفيل المنخفض” الذي اتبعته موسكو خلال الحرب الأطلسيّة على يوغوسلافيا, عن عجزها العسكري وإن عملت واشنطن على “تعويضها” بالمساعدات والموافقة على وساطة فكتور تشيرنوميردين الدبلوماسية, التي ساهمت في حلّ النزاع والقبول بمشاركة قوات روسية في قوة حفظ السلام الدولية في كوسوفو.
وفي شرق أوروبا انفرط عقد النفوذ الروسي وبدأت دول المنطقة تسعى إلى دخول الاتحاد الأوروبي، مثل بولندا والمجر ورومانيا وبلغاريا والتشيك، بالإضافة إلى دول البلطيق إستونيا ولا تفيا وليتوانيا.
مما سبب خلل في الأمن القومي الروسي الاستراتيجي و تلاحقت خطوات القضم إلى أفريقيا و آسيا الوسطى و الشرق الأوسط و اقترب الناتو من الخطوط الروسية و أهم منطقة هي شمال القوقاز التي ألجمت الروس عن وقف التقدم الأطلسي  في أوربا حتى ينهي الصراعات و الحركات الانفصالية الداخلية وقامت الولايات المتحدة الأمريكية عام 1997م تشكيل منظمة الدول المناهضة لروسيا الاتحادية GUMA حسب الأحرف الأولى لأسماء هذه البلدان وهي جورجيا وأوكرانيا وأذربيجان ومولدافيا,علاوة على ما قامت به في العام2002م عملت على نشر مستشاريها العسكريين في جورجيا التي أصبحت حلقة وصل لنقل النفط ومشتقاته من بحر قزوين إلى الغرب فأصبح للناتو نفوذ في جورجيا و أوكرانيا و دول البلطيق بعدة ثورات على أنظمة موالية لروسيا فيما عرف بالثورات الناعمة، البرتقالية والمخملية والوردية والتيوليب، واستطاعت الولايات المتحدة في النهاية أن تحيط بموسكو من كافة أقطارها، فأصبحت روسيا تواجه هيدرا على أكثر من جبهة سواء عسكرية أو اقتصادية أو جيوسسياسية , مما أدى هذا الوضع إلى نشوء القطبية الأحادية في العالم لصالح الولايات المتحدة الأمريكية و استمر هذا الواقع العالمي حتى عام 2000م.
ثم ظلت الولايات المتحدة تتقدم في ميراث الاتحاد السوفيتي السابق واستطاعت أن تنشئ لها عدة قواعد عسكرية في دوله، وأعقب ذلك وبدأت أمريكا بعد ذلك في تضييق الخناق على الدب الروسي الذي حاصرته المشكلات السياسية والعسكرية والاقتصادية، لتضع الولايات المتحدة مواطئ قدم لها على معظم حدوده، في بولندا وألمانيا وأوكرانيا وجورجيا وتركيا وأوزبكستان وقيرغستان وأفغانستان، حتى جاء الخطأ الأمريكي الاستراتيجي الذي استفادت منه روسيا بشدة، ألا وهو حربا العراق وأفغانستان. .....  
يتبع (الاستراتيجية الأمريكية للقرن الواحد والعشرين وسياسة الاحتواء الأمريكية لروسيا والصين وخلفياتها)...                   

تعليق عبر الفيس بوك