ذاكرتي النوفمبرية

 

عفراء علي الحوسنية

لا تزال أعمال النظافة التي نقوم بها في فصولنا الدراسية في ذاكرتي، حيث أول ما يجب علينا أن ننتبه إلى وجوده في الصف هو صورة السلطان المعظم- حفظه الله-، ومن تلتفت إليها قبل زميلاتها فهي بحق تستحق الثناء والإشادة. أما النشيد الوطني في طابور الصباح فله ضجة كبرى في ذاكرتنا، فنحن زمنَ طفولتنا المبكرة لا نفهم ألفاظه، ولا نعي معانيه، ولكننا نكتنز دفقا من المشاعر الصادقة تجاهه؛ لأنه يعني قابوس؛ وقابوس يعني عمان. لاتزال بهجة النفس، ونشوة الخاطر بمقدم السلطان قابوس حاضرةً، وكأنها اللحظة، نتحدّى لظى الشمس المحرقة والجوع والعطش، لا لنحظى بنظرة لصاحب الجلالة؛ لأنها صعبة المنال؛ بل لنصطف في طابور مستقبليه، ويكفينا فرحا وغبطة. لازلت أذكر وصية أمي التي تعهدتني منذ نعومة أظافري: "قولي لها هذا حمى قابوس"؛ لأحمي نفسي من أية مشاجرة مع رفيقاتي على الأمكنة في كل ربع من ربوع مدرستي؛ نعم حماه ومرتعه، غُذِّي بأبجديات قابوسية منحت عمان مفرداتها، التي تميزها عن غيرها، وتحميها من الأنواء، وحجارة الفلتاء.

لا زلت أذكر قلمي وهو يمر على تفاصيل ملامحك، يرسمها مجددًا في كل صورة من صورك بداية كل كتاب من كتبي الدراسية، وأقرأ اسمك المكتوب أسفلها بصوت عالٍ؛ فيرافقني صداه تميمةً، تحيطني بالأمان، وتدفعني إلى الأفضل.

 تضج ذاكرتي النوفمبرية بتحيتي الصادقة، التي تتحدى حدود الزمان والمكان، أبعثها عبر الطائرات العابرات لأفق منزلنا إلى والدنا وقائدنا، أبعثها صفاء ونقاء إلى أبي قابوس.

وتمر الأيام ويؤرقني البعد، ويتلون كل شيء بداخلي، وحولي بلون قاتم يعبر عن معاناة الفقد على الرغم من الأبوة، فرأيت الجبال متواكبة باكية، وبدت لي الواحات لافظة لخصبها؛ احتياجاً لساقيها، والعطر غادر زهرها ناشدا أنفاسك سيدي.. فما وجدت نفسي، إلا قارئة نهمة لتاريخ البلد- الذي غادرت إليه للأسباب التي نعلمها- تاريخه وحضارته وطبيعته، "وما حب الديار شغفن قلبي؛ ولكن حب من سكن الديارا"،  فأتجلد بالأمل، وألوذ بالدعاء حصنًا يحميني إذا ما العبرات تدافعت، وإذا ما الأشواق أضرمت.. لأجد الجميع في صبيحة يوم ساجدين، وعيونهم باكية، وقلوبهم خاشعة متضرعة بعد إطلالتك النوفمبرية، التي طمأنت فيها شعبك فأعدت النبض لقلوبهم؛ فيصبح كل قبيح جميلا، وكل حزن فرحا وبهجة، وكل ألم أملا... أحببناك يا أبي من دون تحبيب، وأخلصنا لك من دون غرس.  

فيا الله! أي أب، وأي قائد، وأي حاكم أنت؟! مخلد يا أبي- تفانيك ومحبتك وإخلاصك- في ذاكرة بنيك وفي حنايا عمان، فلا تعاقب أزمنة، ولا تبدل حال يمحى فضلك، فهو حفر عبر الزمن؛ لبناء حضارة أمة نأت بنفسها عن مهاترات لا تسمن ولا تغني من جوع. أنت فرحة نوفمبرية، يزهو بها عقل الزمان إن طال، وإن قصر.

تعليق عبر الفيس بوك