الحياة الاجتماعية في عمان (1750 ـ 1850م):

النسق الاجتماعي ومظاهر الحياة في القرية العمانية (3)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

في الحلقة السابقة تحدثنا عن النسق الاجتماعي في التجمعات العمرانية في عُمان ـ سواء الحضـَرية منها أو البدوية وألقينا نظرة على أهم جوانب ومظاهر الحياة الاجتماعية في التجمعات السكانية في الفترة (1750 ـ 1850م)، وتناولنا بالشرح والفحص نسقي (أنماط  العمران) و (الإسكان نظام التعليم)، وفي هذه الحلقة سوف نتناول (النظام الصحي)، و(مظاهر اللباس)، و(المائدة العُمانية وطرق الأكل).. فإلى التفاصيل...

ثالثا -  النظام الصحي:

إعتمدت القرية على الطب الشعبي باستخدام أساليب التداوي التقليدية، كالعلاج بالأعشاب والنباتات المحلية، وتجبير الكسور، واستخدام طريقة الكي بالنار في بعض الحالات، واللجوء لاستخدام الرقى والأحجبة والتعاويذ. وتبقى هذه الأساليب عاجزة عن التصدي للأمراض المستعصية، بل إنها تعجز حتى عن علاج بعض الأمراض البسيطة التي تتحول بفعل الإهمال أو ضعف التشخيص إلى أمراض تصعب السيطرة عليها. أما إذا تعرضت البلاد لوباء معين فإن طرق العلاج التي سبق ذكرها تعجز تماما عن تقديم أى حلول وعلى سبيل المثال فإن السيد حمد بن الإمام سعيد أصيب بالجدري في عام 1792م مما كان سببا في موته خلال بضعة أيام من إصابته بالمرض. و من المثير للانتباه أن سوء الحالة الصحية استمرت طويلا بعد ذلك حتى إلى حوالي منتصف القرن العشرين وقد كتب حول ذلك طبيب مستشفى الإرسالية التبشيرية الأمريكية الدكتور هاريسون الذي قدم أوصافا تفصيلية على معاناة العمانيين وجيرانهم العرب من تفشي الكوليرا والملاريا وغيرها من الأمراض.

وبعدما زار ويلستد عمان وتجول فيها أشار إلى انتشار الحميات (وهي أعراض لعدد لا حصر له من الأمراض)، وأن مناطق سكنى الحضر مهيأة لانتشار الأمراض بسبب جوها الحار الرطب على خلاف البـدو الذين يقطنون الصحراء التي تتميز بنقاء هواءها مما يجعلهــا مقصدا للمصابين بالعلل، كما أشار إلى أن من بين الأمراض المنتشرة الرمد وأنواع أخرى من أمراض العيون وهي من الأمراض المستوطنة في عمان خاصة في الواحات الزراعية. ويقوم العلاج الشعبي على استخلاص الأدوية من النباتات الموجودة في البيئة المحلية واستيراد القليل من الخارج. ومن أساليب العلاج: الحجامة وهي إخراج الدم الزائد، والشطابة وهي التجريح على صيوان أذن المريض بالصفار (اليرقان)، وانتشر في عمان العلاج بواسطة الكي بالنار عند استفحال بعض الأمراض مثل الشيصة (وهي ألم حاد في البطن) و بو برقع (وهو شلل عصبي يصيب الوجه ويترك فيه آثارا تدوم فترة طويلة) ويستخدم الكي أحيانا على سبيل الوقاية من أمراض محتملة.

 

رابعا - مظاهر اللبــاس:
كان اللباس السائد لدى الرجال ثوب طويل من القماش يسمى في اللهجة العُمانية دشداشة (وتتكون من قطعة واحدة)، وإزارملفوف حول الخصر، وعمامة على الرأس. وكانت الأقمشة تستورد من الخارج ومعظمها من الهند. ونظرا لاشتغال معظم سكان القرى بالزراعة أو صيد الاسماك لساعات طويلة من اليوم  فقد لجأوا إلى لبس قميص وهو ثوب قصير من قطعة واحدة يصل إلى الخصر إضافـة إلى الإزار بطبيعة الحال
هذا أثناء مزاولتهم أعمالهم اليومية، أما في حالة الزيارات والمناسبات وأداء الصلاة وغير ذلك فإنهم يظهرون في زيهم الكامل. ويعتبر لبس الخنجر وربطه بحزام حول الخصر من أهم سمات الزي الرجالي عند العمانيين، مما يميزهم عن الكثير من الأقطار العربية. وإن وجد تشابه بينهم وبين اليمنيين وسكان بعض المناطق في شبه الجزيرة العربية، إلا أن شيوع نطاق استخدامها رسميا وشعبيا في عُمان جعلها عادة متأصلة حتى الوقت الحاضر رغم التغيير الكبير الذي طرأ على الحياة عبر القرون المتعاقبة. ومن لم يجد قدرة على صنع أو شراء خنجر في الماضي فإنه كان يتمنطق حزاما من الجلد يضع فيه سكينا أو رصاصا يستخدمه كذخيرة حية يحشو بها بندقيته التي كانت لا تفارقه عند تنقله خارج قريته أو مدينته بحكم الظروف الأمنية.

كانت تنشئة العُمانيين للأطفال تعتمد على تعويدهم الرجولة و القوة، و لم يكن مألوفا في عرفهم أن يخرج أحدهم من قريته و ليس بيده سلاح، سواء كان سلاحا ناريا أو سلاحا أبيض، وعلى الأقل لم يكن واردا أن يخرج وليس في يديه عصا. ولا نجد تفسيرا لهذه الظاهرة ـ التي لم تنفرد بها عُمان بقدر ما كانت ظاهرة شائعة في البلدان المجاورة ـ إلا بالنظر إلى حالة الأمن ودرجة الإستقرار. ولا نغفل أيضا ما  كان يواجهه الإنسان من خطر وجود بعض الحيوانات المفترسة، واعتماد الرجل على صيد بعض الحيوانات كالظباء والغزلان والأرانب وغيرها ليسد رمقه هو وعائلته أو يبيعه في الأسواق . أما الملابس النسائية فقد تنوعت أشكالها و أنواعها لتناسب الذوق كما كانت المرأة تتزين بالحلي بحسب قدراتها الإقتصادية ومكانتها الإجتماعية. وبطبيعة الحال تمايزت أشكال الأزياء باختلاف المناطق  .

خامسا -  المائدة العمانية وطرق الأكل:

عندما يستضيف الحاكم أو الوالي شخصا أو وفدا رفيع المستوى فإنه يبالغ في إكرامه، ومن ذلك ما يرويه الطبيب الأمريكي هاريسون عندما استضافه والي إحدى مدن المنطقة الداخلية، وقد وصف مأدبة الطعام التي قدمت له ولمرافقيه بأنها كانت طبقا ً ضخما ً من الأرز كأنه جبل إذ يصل ارتفاعه خمسة أقدام، وقد دفن فيه خروف مسلوق كاملا، وكانت شهية مرافقيه العرب مفتوحة  بشكل يثير الاستغراب فهم يأكلون أرطالا من اللحم والأرز دون أن يتسبب ذلك لهم في عسر الهضم. وكانت أدوات المطبخ تصنع من الأواني الفخارية التي تشتهر بها المنطقة الداخلية من عمان، بالإضافة إلى الأواني النحاسية والخشبية. فيما اعتمدت المائدة العمانية على المنتجات المحلية، إضافة إلى استيراد الأرز والسكر والتوابل من الاقطار المجاورة لا سيما من الهند. وقدم ويلستد وصفا للوجبات العمانية مشيرا إلى أن العمانيين يستفتحون الوجبة الأولى وهي وجبة الإفطار بعد صلاة الصبح، ويختلف نوع الإفطار باختلاف الفئة الاجتماعية فالشيوخ يفطرون على القهوة والأرز والسمك والخضروات، بينما يقتصر الفقراء على التمر وبعض الكسيرات من الخبز الجاف. وتتكون وجبة الغداء عند ميسوري الحال من الأرز واللحم، أما الوجبة الرئيسية لجميع الفئات فهي العشاء، وتتكون عند أهل اليـَسار من شاة أو حمـَل ٍ يطبخ كاملا ولا يقطعونه، ثم توضع الذبيحة بعد طبخها فوق طبق من الأرز المطبوخ، وتوضع فوقها التوابل. ويجلس الناس عند تناول الطعام على الأرض ، ويتحلقون حول الصحن دون اعتبارات بروتوكولية فالكل سواسية في هذا المقام، ويدعو الأب أو المستضيف الجالسين للبدء بالأكل مستهلين ذلك بتسمية الله ومختتمين طعامهم بحمده وشكره. ولم تكن العوائل الغنية في منأي عن الأساليب الحديثة والأدوات التي بدأت تظهر آنذاك، فقد استورد بعضهم موائد الطعام من الهند، والأطباق الفاخرة من الصنف الصيني اللامع متعدد الألوان، وكذلك الأطباق والكؤوس الزجاجية التي كانت تملأ عند الأكل بالعصائر، وأنواعا آخرى من الآنية غالية الثمن التي تصل أحيانا على سبيل الهدية للحكام المحليين من حكام الدول الأخرى و من الشركات الأوربية.

ومما يحسن ذكره في معرض الحديث عن المائدة أن القهوة تعد المشروب الأكثر شهرة في عمان، ولا تقتصر على البدو بل تشربها كل الفئات على تنوع أماكن سكناها وفئاتها العمرية، وعادة تتولى النساء إعدادها في البيوت، وهي تشرب صافية دون سكر أو حليب، ولطريقة إعدادها ثم تعاطيها طقوس معينة، وتبدأ عملية  إعداد القهوة بقلي حبات البن في إناء نحاسي مسطح على نار هادئة ، ثم يسحق ذلك البن من خلال ضربه بمدق، وعادة ما يتم ضرب المدق على أطراف الإناء النحاسي ليحدث نغما جميلا كأنه رنين الأجراس. ثم يوضع المسحوق ويضاف إليه الماء ويغلى في النار. وبعد أن ينتهي إعدادها يتم صبها في الإبريق النحاسي أو الفضي المعروف في عمان بالدلـّة ثم تسكب في فناجين، ويحمل مقدم القهوة الدلة في يده اليسرى ويوزع الفناجين بيده اليمنى على جميع الحاضرين، ويتحتم على من يشربها أن يهز يده بحركة نصف دائرية عند اكتفائه من شربها.

تعليق عبر الفيس بوك