ضبط جهود مواجهة الأزمات والتعامل مع مراحل تطورها؟

د. عيسى الصوافي – سلطنة عُمان
دكتوراه في إدارة الأزمات

 

في المقالة السابقة أجبنا على سؤال: "كيف نسيطر على الأزمات ونحدّ من تجدّدها؟ واستمرارا لهذا السياق سوف نحاول الإجابة على تساؤل غاية في الأهمية وهو: كيف نضبط جهود مواجهة الأزمة ونتعامل مع مراحل تطورها؟
ونجيب بالقول: عندما يتم الإنهاء من عملية مواجهة الأزمات بحصر مسرح الأحداث ولملمة الجراح وضبط الخسائر، تأتي مرحلة التأمل وفحص المحرضات التي كانت وراء الأزمة، ثم دراسة مستوى الاستعداء ومكان الخلل، وهي كلها أساسية للتعامل مع الوقائع المماثلة، في هذا السياق، ويمكن أن نتتبع جهود ضبط الأزمات من خلال التطرق للعناصر التالية:
أولاً: عناصر الإعاقة:
وهي مجموعة من العوامل التي تتدخل سلبياً فتعيق فعالية قرارات مواجهة الأزمات وتحد من نجاعتها إن لم تخلق لها تداعيات تزيد من فداحة الكوارث والأضرار (..) ونذكر منها:
(1)    العرقلة المادية لعمليات التصدي للأزمات، وتحصل هذه العرقلة عندما تعترض في إحدى مراحل مواجهة الأزمة، عناصر مادية مفاجأة لم تكن في حسبان صانع القرار. وعادة ما تحمل طبائع متعددة، فقد تكون ذات طابع لوجستيكي أو عملياتي وقد تكون ذات طابع سياسي، لكن مهما اختلفت طبيعتها فإنها بشكلها المفاجئ تأتي خارج التقديرات وتخلف الأضرار البليغة (..). بهذا، هي تفرض ضرورة الفحص والتمعن لإدخالها في حساب التقديرات للحيلولة دون تكرارها في المستقبل.

(2)    العرقلة غير المادية لعمليات التصدي للأزمات وهي تدخل ضمن العوامل غير المادية التي تؤدي إلى عرقلة عمليات التصدي فتكون ناجمة إما عن:

(أ‌)    مواصفات العنصر البشري: في هذا الباب نرتب مدى كفاءة العاملين الذين شاركوا في أعمال التصدي للأزمات، إذ يمكن أن يكون العاملون قد تلقوا تأهيلاً يختلف في مضمونه عن طبيعة الأزمة المندلعة، كما قد تكون تقنيات التجهيز عاملاً محبطا من مهمة المكلفين بمواجهة الأزمة وحتى عدم كفاية العاملين، إما بحكم عدم تعبئة العناصر البشرية اللازمة أو عدم كفاءة الطاقم بأكمله نظراً لهول واتساع نطاق الأزمة فيغدو معها الطاقم المتوفر غير كاف أصلاً.

(ب‌)    ميزانية الموارد المرصودة: ويمس هذا النوع من عوامل العرقلة كمية الموارد المعبئة لمواجهة الأزمة من الاعتمادات المالية من جهة ومن جهة ثانية طريقة توزيعها على واجهات التعامل مع الأحداث ثم كذلك طرق تقييم الحاجة والضغط ومتطلبات المواجهة (..)، كما قد تكمن أيضا في طريقة اختيار الموارد المادية وأسلوب تقييم دورها وفعاليتها وقدرتها على دعم أعمال المواجهة.

(ت‌)    التشريعات القانونية: وهي تمثل الجانب القانوني الذي يؤطر شرعية وقانونية أعمال التصدي للأزمات سواء من جانب مرونة النصوص التي تسمح بالدعم المالي من حيث السرعة في تقديم الإمكانيات المالية ومن جانب تغطية النصوص للمجالات موضوع طلب التدخل فتكون ملائمة لمستجدات الواقع ومتطلبات أشغال الهياكل والأقاليم والقطاعات وأيضاً تغطية هذه النصوص لكل المخالفات التي كانت وراء اندلاع الأزمات وصلاحية هذه النصوص في حد ذاتها لتجريم الأفعال المنسوبة التي كانت تسببت فيها وأساساً طابع الصرامة المفترض في العقوبات المقررة لمواجهة مثل هذه الأفعال الإجرامية.

ثانيًا: التعامل مع تطور الأزمات:
حتى يتم احتواء الأزمات يجب الشروع في عملية المواجهة والتصدي بعد تلقي صدمة الاندلاع واستيعاب هول المفاجأة. ذلك أن انطلاق عمليات المواجهة تتغير وتتسارع بحسب طبيعة الأزمة وحسب قوتها ومخلفاتها من أضرار وأيضًا نطاق المضاعفات، وبالتالي الملاحظ أن وقوع الأزمات يبدأ من منحنى "النشأة" فمرحلة "الصعود"، ثم الانتهاء بالـ"خمود والنزول".
(أ‌)    المرحلة الأولى وهي حلقة انطلاق الأزمة: وتتضمن هذه المرحلة أولاً بداية تشكل مسببات الأزمة وذلك من خلال لمس أعراضها بشكل ظاهر كتكون الأزمة من إعصار بحجم معروف ولكن دون الإلمام بتطور حجمه هل إلى التصاعد أم إلى التنازل وأيضاً مساره وسرعة تحركه، حيث الخط الذي يأخذه ليس ثابتاً وتحركه فيه يكون بسرعة غير مستقرة، قد تتسارع أو تتباطأ. كذلك قد تكون الأزمة على شكل خلاف حديث النشأة بين دولتين فيبقى الترقب لازماً لمتابعة تطوره وقد يكون قديماً فتأتي الحادثة التي يمكن أن تشعل فتيله إما نحو الإنفجار أو إلى تبني الخطوات المفضية إلى إنهائه. كمثال حالة انتقام وحرق السفارة السعودية بطهران وقنصليتها بحيث شكل النقطة التي أفاضت الكأس، فقطعت العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، بعد أن سادت هذه العلاقات مؤشرات توتر امتدت لردح غير قصير من الزمن. ويمكن أيضا أن تكون مسببات الأزمة غير ظاهرة تعلن عنها أية أعراض إما بسبب نقص الإمكانيات المخصصة، أو عدم رصد أية إشارة على ذلك كحالة وقوع الزلازل أو حصول تغيرات في الكساء الترابي لأديم الأرض.  

(ب‌)    الحلقة الثانية وهي حلقة تطور الأزمة: وتبدأ مع تلقي صدمة الأزمة فتكون الاستجابة إما بشكل مبكر وفوري. وهذا الاحتواء يتطلب موارد بشرية مؤهلة إمكانيات مادية كافية وتجهيزات متطورة تنظمها تقنيات بالغة الإتقان. والنتيجة بطبيعة الحال، تؤدي إلى حصر الأضرار في شوطها الأول بالشكل الذي تجنب البلد فداحة الخسائر، ويمكن أن تأتي الاستجابة للأزمات في مثل هذه الوضعيات بشكل إما متأخر أو بطيء. وهذا يتطلب إمكانيات أضخم للتدخل مما يرفع من الخسائر التي تغدو تكون أكثر ويبقى الجهد المبذول للحد منها يأتي فقط ليوقف اتساعها وتفاقمها. ثم هناك جانب العنصر البشري المعبأ للمواجهة، إذا يتعرض للإنهاك لسوء التأهيل أو لعدم الكفاية في الكم أيضاً يتعرض للانهيار بحكم تقوى وتزايد الأزمة.

(ت‌)    الحلقة الثالثة وهي حلقة ذروة الأزمة: هي المرحلة التي تتجسد فيها الأزمة في أضخم أو أقصى صورة من حيث الجسم أو التأثير أو المضاعفات. وخلالها يتركز مجهود صانعي القرار أو مديرو الأزمات كله في تحاشي الوصول إلى هذه المرحلة أو تفادي اتساع آثارها قدر الإمكان. على أن التساؤل يثور حول المدة التي تستغرقها (حلقة الذروة) اعتباراً للأضرار التي محلها مقارنة مع قدرة التحمل الذي تتوفر عليها البنية المنظمة سواء كانت الدولة أو الإقليم أو الهيئة (..).
في هذا الصدد يمكن التميز بين الذروة التي لا تتعدى عدة ثوان أو دقائق فتترتب عنها أخطار وخسائر في الأرواح والممتلكات، كما هي الحال في الزلازل التي تكون وطأتها بلا حدود، إذا ما ارتفعت درجاتها عما ترسمه مختبرات القياس الجيولوجية الخاصة بالزلازل، أو طالت المدة التي تعتمل فيها الهزات الأرضية عما تستغرقه مثيلاتها حسب المعدل المتوسط المتعارف عليه علمياً. وكذلك المرتبة نفسها تصنف فيها تسربات الإشعاع النووي أو انفجار مستودعات الذخيرة وغيرها من الكوارث والأزمات التي ــ في ظرف جد وجيز ــ تسفر عما لا تحمد عقباه. وبين الذروة التي تأتي قصيرة الأمد ولكن ليست في لحظة خاطفة، كأن تتفرق يوماً كاملاً مثلاً ثم تبدأ في التراجع كحال الفيضانات أو الأمطار الطوفانية. فيكون على السلطات فقط تدبير المخلفات من فقدان الأفراد أو انجراف القرى أو استصلاح الأراضي. وهنا يمكن أن نشير إلى أزمة ارتفاع منسوب مياه نهر السين Seine في العاصمة الفرنسية باريس وضواحيها، حيث غرقت أحياء بأكملها في المياه وتدخلت السلطات بشكل فعال في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
(ث‌)    إضافة إلى ما سبق، وهي الحلقة الرابعة وتسمى (مرحلة الذروة المتوسطة الأمد) والتي تستدعي مجهوداً متواصلاً لمجابهة الأزمة التي تحملها كما هو الشأن في حرائق الغابات أو محاربة موجات الجراد المترحل العابر للبلدان بل وللقارات، والذي يأتي على الأخضر واليابس ويتطلب تعبئة متواصلة ومحاربة بلا هوادة، ممتدة في الزمن لا تتوقف إلا بانتهاء مخاطره ودفع أذاه. وتبقى في الأخير (مرحلة الذروة) التي تقضي أمداً طويلاً حتى تعرف الحل، أمد قد يقارب السنة بأكملها وقد يتجاوزها، كما هو الشأن بالنسبة لاحتجاز الرهائن أو اختطاف الشخصيات وما إلى ذلك عندما تتداخل العوامل وتختلط الأوراق وتتعقد الشروط فتطول المفاوضات كحالة المفاوضات بين الحكومة الكولومبية وقوى الفارك FARC المتمردة.

(ج‌)     ثم الحلقة الخامسة وتسمى (مرحلة التنازل): وتبدأ مؤشرات التنازل تظهر على الأزمات عندما تتوقف مرحلة الذروة وتأخذ الانحسارات في الوصول إلى مسرح الأحداث كتوقف هزات الأرض بالنسبة لحالة الزلازل. وهذه تمس حالة الأزمات التي تحدث فجأة فتخرج عن إرادة الإنسان. ونفس الأمر ينطبق على حالة الأعاصير أو الأمطار الطوفانية أو الفيضانات والسيول. وقد يكون الوقت عاملاً حاسماً في ظهور الخط التنازلي وتتجلى هذا الأمر مثلاً في طول مدة المفاوضات بالنسبة للأزمات الناجمة عن احتجاز الرهائن أو اختطاف الشخصيات، حيث بالضرورة تبدأ مظاهر الإرهاق والتعب تظهر على الإرهابيين وتشكل عاملاً في نقص القدرة على التركيز الذهني والدفع نحو التراجع التدريجي نحو الحلول السلمية. كذلك يلعب الوقت في انطلاق مرحلة التنازل، عندما تبدأ مظاهر تدخل السلطات للحد من مخلفات الأزمة ذروة الأزمة، كما يحدث في حرائق الغابات حيث يبدأ نطاق مساحات النار التي تلتهم الأشجار في التناقص، إلى أن تحاصر تدريجياً ويتم القضاء عليها بفضل مجهودات رجال الإطفاء والوقاية البيئية والمدنية والسلطات المحلية أو الوطنية.


(ح‌)     ثم الحلقة السادسة وتسمى (مرحلة زوال الأزمة): هي مرحلة تبدأ مع اختفاء عناصر الأزمة وتوقف أي خطر جديد لها وإن بقيت آثارها التي تعالج في إطار آخر من تدخلات السلطات. وهكذا تدشن هذه المرحلة تلاشي عناصر الأزمة تدريجيا إلى أن تختفي ونصل إلى نقطة انقشاع الأزمة ونهايتها (..). على أن هناك من يرى أن انتهاء الأزمة لا يكون بتلاشي العناصر التي حملتها، وإنما بانتهاء مظاهرها وتداعياتها. هذا التصور يكون مصيبا عندما تمتد جهود احتواء الأزمة إلى محاصرة أسبابها حتى لا تندلع من رمادها أزمة متتالية. على أن الصواب يمكن أن يجانب هذا التصور، إذا ما دفع بحدوده إلى أن تشمل كذلك جهود البناء والتشييد فيما يخص مثلاً الأزمات الناتجة عن الزلازل. ذلك أن عمليات وأشغال إعادة الإعمار عادة ما تستغرق مدداً طويلة، إضافة إلى قدوم متدخلين آخرين كمقاولات البناء وصناديق التمويل التي لها منطق ومناهج وكذا وبرامج متنوعة ذات طبيعة آخرى مخالفة لطبيعة إدارة الأزمات والعنصر البشري المشتغل بها والمتخصص في مواجهة الأزمات.

تعليق عبر الفيس بوك