علي المعشني
"أوطان آيلة للسقوط" هذا عنوان كتاب الزميل والصديق سعادة الشيخ سيف بن هاشل المسكري، والذي ضم بين دفتيه مجموعة من الحوارات الصحفية على شكل ذكريات عن حياته الشخصية والعملية وذكرياته.
حرصي الشخصي على اقتناء الكتاب كان من باب الزمالة والصداقة التي تربطني بالمؤلف ومعرفتي وقربي من طرحه الوطني الغيور وآرائه الجريئة وطبيعته العملية، ونفوره وتمرده على المتوارث والمألوف غير النافع وغير المنطقي. عرفت سعادة الشيخ سيف المسكري سفيرًا بوزارة الخارجية ثم وكيلًا للسياحة فرئيسًا للنادي الثقافي، وقربني منه وحببني به تبسطه ووضوحه الشديد ورؤيته السياسية من خلال دائرتي العروبة والحس الوطني الراقي والبعيد عن الأحلام والشوفينية. وتأتي أهمية كتاب الشيخ سيف في كون صاحبه يجسد ظواهر عُمانية معاصرة تنطق بالصدق ومن رحم المعاناة وقلب الحدث، فالرجل – وكما عرفته - لا يتكهن ولا ينظر ولا يحلل عن بُعد من واقع تسريبات أو تحليل للواقع من النتائج على الأرض بل يتحدث بلسان العارف والمجرب، ومن كان طرفًا لازبًا في الحدث وشاهدًا عليه، ومن هنا تأتي المصداقية وعمق الرؤية.
الشيخ سيف يمثل العُماني المعاصر بكل تجلياته وأحلامه وآلامه وارتحاله والذي أكتوى بنار الهجرة والغربة والرحيل الدائم وامتلأ بالقلق بحثًا عن مستقر ومستقبل في زمن ما قبل النهضة القابوسية المباركة حين كان العُمانيون رُحَّل في أرض الله الواسعة بحثًا عن المستقبل والذات والعلم وطلبًا للكسب والرزق، وهو من الذين لبوا واجب النداء الوطني المقدس لاحقًا ومنذ بزوغ فجر النهضة المباركة وطووا الأرض سعيًا في رحاب الخالدين تلبية لهاتف البشرى (وكما شبّه الأديب عبدالله الطائي)، وأتوا مثقلين بالحنين للوطن والحب الغامر له ومتسلحين بالصدق لبنائه وإعماره عبر سكب تجارب الغربة الممزوجة بحرقة التخلف وغيرة التطور واللحاق بالركب وخلق المستقبل المفقود من أنفس العُمانيين لعقود خلت.
من هنا فإنّ الشيخ سيف المسكري ظاهرة عُمانية خالصة تستحق الكثير من التأمل والتدبر في كتابته وشفاهته وليس حالة فردية تكرس فردًا وتجربته الشخصية.
ميزة الكتاب أنّه اقتحم أسوار المحظور وغاص في أعماق المُحرّمات السياسية في منطقة الخليج عبر تفكيك وتحليل منظومة "الصندوق الأسود" والمسماة سياسيًا وإعلاميًا بمجلس التعاون لدول الخليج العربية. فهذه المنظومة السياسية التي تأسست عام 1981م بميثاق سياسي ناصع المواد، لم ير منه المواطن الخليجي سوى رأس جبل الثلج والمتمثل في القمم والأحضان والقُبل والابتسامات المتبادلة عبر الشاشات وأوراق الصحف، وبقي هذا المواطن يلتمس العذر لمنظومته الحلم في النهوض وبث ثقافة الوحدة والتنمية والرخاء والمواطنة الخليجية والمصير المشترك لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن دون جدوى.
وفي رحلة الترقب هذه، أصيبت أحلام وطموحات هذا المواطن في مقتل حين اختبرت منظومة التعاون بحربي الخليج الأولى والثانية وما صاحبهما من تداعيات، وصولا إلى تفاصيل خلافات ثنائية بين أقطار المجلس- لاحقًا- من نزاعات حدود ونفوذ ومناصب برهنت أن المنظومة الخليجية في خطر وأنّ مناعتها السياسيّة هشّة للغاية وأساسها بُني على رمال متحركة، وختمت المنظومة مسلسل عثراتها بحصار قطر أو ما عُرفت بأزمة الخليج اليوم؛ والتي جعلت الأحلام والمصير قاب قوسين أو أدنى من الرحيل الأبدي.
ما تعرض إليه الكتاب وتناوله في فصوله هو ما كان يبحث عنه المواطن والمراقب لسيرة مجلس التعاون ولا يجد إجابات عليه، حيث اعتمدت منظومة التعاون التكتم الشديد ودبلوماسية القمة طول سيرتها وحجبت نفسها عن أي تفاعل أو مشاركة شعبية (عامة أو نخبوية)، وبالتالي لم تثمر تلك الدبلوماسية سوى في نطاق الشللية الضيقة وخدمة مصالح ونفوذ نُظم وأشخاص بعينهم، وغابت كل مظاهر الدبلوماسية الشعبية المؤثرة ففقد المجلس الكثير من بصيرته وإدراكه وتأثيره ومناعته. فدبلوماسية القمة- وكما هو معلوم- تحفها الكثير من مظاهر المجاملات والحرج والمحاذير الشخصية، بينما الدبلوماسية الشعبية تجذر العلاقات بين الشعوب عبر تشعب المصالح والتفاعل بين الفئات الشعبية وتداخلها وتمثل البوصلة الجلية لصناع السياسات والقرار.
يمثل الكتاب بالنسبة لي زادًا كبيرًا للذاكرة السياسية الخليجية والعُمانية وكسرًا لعتبات المحرمات السياسية في أقطار الخليج، وإضافة مهمة للذاكرة السياسية العُمانية، وحق لازب للأجيال المتعاقبة أن تعلم ماذا يقرر لها وباسمها خلف الجدران والكواليس وفق الحد المعقول.
فعلى الرغم من أنّ الكتاب عبارة عن جملة من الحوارات الصحفية تتأرجح ما بين المذكرات والذكريات في مضامينها إلا أنّه ضربٌ من ضروب التقاليد الجديدة في السلطنة وأقطار الخليج، والتي لم تشهد من قبل كتبا بهذه الصنوف من المضامين من أحد أبنائها، بينما بقيت أوضاعها ومصائرها نهبًا مستباحًا للأقلام الأجنبية عنها وعن واقعها وطموحاتها لعقود خلت وما تزال.
المذكرات والذكريات وما على شاكلتها من تجارب للشخصيات العامة في جميع البلدان هي بمثابة قبسات مضيئة للأجيال لتهتدي بها فتضيف على الحسن منها وتتجنب القبيح والمذموم؛ كونها تجارب أتاحتها الأوطان والظروف لأشخاص، وبالتالي فهي ملك للأجيال وليست حكرًا عليهم أو أرشيفا شخصيا وعائليا لهم.
رغم أنّ "ما كل ما يُعرف يقال ولا كل الحقيقة تُقال" مراعاة لأمور كثيرة، فإنّ كتاب سعادة الشيخ سيف المسكري لم يشذ عن هذه المقولة القاعدة للعقلاء على مر العصور، ولكنّه حرك الكثير من المياه الراكدة والأفكار الحبيسة بلا أدنى شك.
قبل اللقاء: "أكبر تنازل تقدمه في حياتك هو أن تتأقلم".. محمود درويش.
وبالشكر تدوم النعم.