10 سنوات تربوية في عمان

 

د. نمر منصور فريحة

** خبير تربوي في دائرة برامج المواطنة

الآن، ومع انتهاء عقد عملي مع وزارة التربية والتعليم في سلطنة عُمان، واقتراب تاريخ العودة إلى لبنان، أشعر بدافع قوي للنظر إلى السنوات التي أمضيتها في عمان البلد الجميل الذي منحني السلام والهدوء، ما ساعدني على وضع بعض كتبي في أجوائه الملهمة، إلى جانب القيام بعملي في الوزارة. إذ بدأت مشواري التربوي في السلطنة عام 2004، عندما تعاقدت للعمل مع وزارة التربية والتعليم كمستشار مناهج للتربية على المواطنة، إضافة إلى الدراسات الاجتماعية، وبعد خمس سنوات انتقلت إلى جامعة ظفار لمدة سنتين، ومنها إلى بيروت لثلاث سنوات، لأرجع بعد ذلك إلى وزارة التربية والتعليم في العام 2014.

قريباً سأعود إلى بيروت حيث سأتابع نشاطي في الحقلين التربوي والأدبي مكتفياً بالإشراف على بعض طلبة الدكتوراه في التربية، ولن أكتب إلا كتاباً واحداً عن حال التربية في العالم العربي، بينما سأكرس معظم وقتي للكتابة الأدبية. وعندما قرأ أحد الأصدقاء العمانيين ما ورد في مقدمة كتابي "المواطنة العالمية والمواطنة الرقمية"، والذي صدر في بيروت ومسقط منذ أسابيع، وذكرت فيه أنَّه الكتاب الأخير في هذا المجال، كتب مقالة في صحيفة "الرؤية" جامعاً فيها بين هجري للكتابة عن المواطنة ورواية سياسية لي بعنوان "سفينة الرهائن". وما أهدف إليه من هذه المقالة هو إلقاء الضوء على بعض الأمور التربوية التي عايشتها كتحية وفاء لكل من عملت معهم منذ 2004، إذ لمست لدى المسؤولين حرصهم الدائم على تحسين الواقع التربوي في السلطنة من خلال التوجيهات والإشراف والمتابعة لكل أمر تربوي يرتبط بالإدارة المدرسية والمناهج والكتب الدراسية والتقويم والأنشطة الطلابية...

 وما أود قوله هنا، إن أي خبير أو مستشار غير عُماني، لا يحمل في جعبته كل ما يحتاجه حقل عمله. تكون لديه معرفة وخبرة مميزة، لكن من يعمل معهم من العمانيين يتمتعون أيضاً بخبرات ومعارف وكفاءات، وخلال عملية التفاعل هذه يتعلم هذا "الوافد" من المواطنين بقدر ما يُقدم لهم. وهذا ما حصل معي حيث تعلمت الكثير ممن عملت وإياهم. وأستطيع القول بأن في الوزارة اليوم مجموعة كبيرة من الإخوة العمانيين لديهم المهارات والكفاءات التي بنوها وطوّروها مع الوقت. كما لمست حرص الوزارة الدائم على تعزيز قدرات العاملين فيها من حيث استمرار تحصيلهم العلمي، واشتراكهم في ورش العمل والدورات التدريبية والمؤتمرات ذات العلاقة بتخصصاتهم. وبكل بساطة، هذه هي الطريقة المثلى لبناء "كادر" محترف في أي مؤسسة.

وأذكر جيداً عندما شاركت في أوَّل مؤتمر للتربية على المواطنة أقامته وزارة التربية والتعليم عام 2004، كيف كان الاهتمام قوياً وجدياً برسم خريطة عمل لإدخال المواطنة ضمن مناهج الدراسة وأنشطة الطلبة. وبدأتْ ترجمة هذا الاهتمام مباشرة حيث كان لي شرف المشاركة مع فريق عماني من الوزارة في العمل على عدة مواضيع، وإطلاق مشروع "من أجل الوطن"، ومتابعة مشاريع الطلبة الذين درسوا مشكلات بيئية واجتماعية وصحية من بيئتهم المجتمعية التي يعيشون فيها. وكانت هذه المشاريع رائدة، ولها دور في تبني بعض القرارات التي ساهمتْ في معالجة قضايا تمّت دراستها. كذلك شاركت في العمل على تطوير كتب الدراسات الاجتماعية مع فريق أستطيع القول عنه إنه يتميز بصفات احترافية عالية، وكان جو العمل إيجابياً وبناء حيث يشعر كل عضو في الفريق بأنه يعمل ضمن إطار عائلي وتعاوني ومنتج.

وعملت منذ عودتي إلى الوزارة عام 2014 مع أعضاء "دائرة برامج المواطنة" على عدة مشاريع وأنشطة، وبدأت ثمار العمل تظهر، وأترك الفرصة لمن هم أولى مني بالإعلان عن هذه الثمار قريباً. أما إنشاء الدائرة بحد ذاته، فهو قرار حكيم استند إلى مبدأ مهم وهو أنه لا يكفي أن تخرّج المدرسة مُتعلمين، بل مواطنين عمانيين يتحلّون بالقيم العمانية الأصيلة، ومزودين بالمعرفة والمهارات التي يحتاجونها ويحتاجها الوطن. وضمن هذا الإطار كان العمل طوال السنوات الثلاث المنصرمة مع زملاء مندفعين لتقديم كل جهد في سبيل تحسين واقع التربية على المواطنة وتعزيز قيم الطلبة في المدارس العمانية. فمشروع "من أجل الوطن" الذي بدأته الوزارة عام 2007، وتم إطلاقه مجدداً هذه السنة هو من المشاريع المثمرة تربوياً ووطنياً لأنه يجعل المتعلم يهتم بالبيئة المجتمعية التي يعيش فيها، ويتعرف على قضاياها، ويشارك في معالجة مشكلاتها، ويتعلم مهارات بحثية وتخطيطية. وما لمسته شخصياً منذ إطلاقه أن لدى الطلبة قدرات مهمة، ودور المدرسة والمربين أن يساعدوهم على إبرازها وتنميتها لتنشئتهم كمواطنين مسؤولين وملتزمين بمجتمعهم ووطنهم.  

وإذا كنت في موقع تربوي أستطيع من خلاله تقديم نصيحة، فأود أن أقول لزملائي في وزارة التربية والتعليم في السلطنة إنه ليس للتطوير التربوي من سقف، وما قمتم به وقدمتموه من جهود يمكن استثماره لمرحلة أخرى من مراحل تحسين العمل نوعاً وكماً. فالتربية في عمان تستحق بذل المزيد من العطاء من أجل مخرجات أفضل سنة بعد أخرى، وهذا ما تحتاجه التنمية المستدامة من موارد بشرية كفوءة وقادرة على إثبات الذات محلياً، وعلى المنافسة إقليمياً وعالمياً لأن العالم الذي سيعيش به طالب اليوم سيكون مختلفاً بعد عشر أو خمس عشرة سنة؛ سيكون عالماً يتطلب كفاءات وقدرات متميزة لأنَّ المعايير في التحصيل التعليمي باتت عالمية أيضاً.

أخيراً، لن أقول وداعاً للأصدقاء والزملاء، بل إلى اللقاء مجدداً في بيروت أو مسقط.

تعليق عبر الفيس بوك