موعد مع الياسمين .. تفصيل بحجم الكون (4)

سهى عبود – سوريا

 

من الأسباب التي جعلتني أعزف عن الفن التشكيلي ما يتطلبه من إمكانيات مادية، وفضاء خاص وعلب ألوان.. وأشياء تجعلك في حالة تبعية معينة، إذ لا يمكنك الاستغناء عنها. في حين إن الكتابة لا تتطلب أكثر من ورقة وقلم، بحيث بإمكانك الكتابة في الشارع، أو في حديقة، أو في مقهى، أو على متن قطار، أو حتى على كرسي مرحاض..
أما الفنان التشكيلي فلا يمكنه، خارج المرسم، أن ينتج فنًا بسهولة. ربما هذا ما جعلني أتشبت بالقلم لما يمنحني من حرية في الحركة والتنقل. ولا داعي للتأكيد أن وضعي المالي لم يكن على مستوى حلم من هذا النوع.
ومع ذلك، لدي حنين للوحات، وصخب المعارض رفقة خالي الجميل، الدكتور إياس، فهو أول من رافقني لرؤية أول عرض للوحات في طرطوس القديمة على مشارف البحر.. ناهيك عن حنين طفولي لخربشات أي طفل عندما يرسم.. فكنت مختصة في رسم العرائس والأزهار، حتى على جنبات كتبي المدرسية، أو على أوراق الامتحانات جانب اسمي داخل كل فصل دراسي..
حنين المرسم كان ولا يزال فضاء يلفني بسحره، ويجذبنني كما يجذبني في طفولتي المطبخ الذي كان محرمّا على الصغار مثلي. لذا كثيرا ما كنت أتردد على زيارة بعض الأصدقاء التشكيليين لقضاء بعض الوقت بمراسمهم.
رغم أنني من المعجبات ببعض التجارب الإبداعية لفنانين تشكيليين وكتّاب - خاصة الشعراء منهم- إلا أنني لم أستطع يوما الكتابة داخل مرسم أو الاندماج مع فنان تشكيلي في تواطؤ إبداعي خلاق. لسبب رئيس: هو أن الكتابة عندي تمارس بقلم وجنون..
إلى أن جاء اليوم الذي وجدتُ فيه نفسي داخل مرسم فنان تشكيلي. فنان حتى النخاع، وكان ذلك في طرطوس، حيث كنت في شارع ”المنشيّة” أطارد عناوين روايات جديدة بين المكتبات..
صدفة، التقيته خارجا من إحداهن، محملا بلوازم الرسم: من علب ألوان إلى أوراق، وفرشاة بمختلف الأحجام.. مازحته كالعادة، ومعبرة له عن اشياقي لرؤية لوحاته الجديدة، فدعاني إلى مرسمه، تحت إلحاح كريم..
فأعطيته موعدا على مرمى ساعة، أتخلص من طوافي، وشغفي وسط الكتب..
اسمه: نائل وهو ابن خالتي.. وأخي..
وصلت المرسم، وقد جمّد البرد أطرافي، قبل الموعد المحدد، فوجدته منهمكا في رسم لوحة..
قال في لطف:
- صُبِّي لنفسكِ، يا ابنة خالتي، ما تريدين من شراب، اجلسِي حيثما تريدين، لكن في صمت ريثما أنتهي..
كيف أشرح إحساسي ساعتها؟.. لا أعرف.. تخونني الكلمات تعبيرا عن ما يخالجني..
كنت كمن يحلق في فضاء السكينة. المرسم نفسه قطعة فنية أبدع فيها ”نائل”. موقد في الركن بألسنة لهيب حمراء تسرب دفؤها إلى أضلعي، وموسيقى فيروز تلفني في حالة من التأمل والاسترخاء. لوحات متدلية من الجدران كالوشم، تحلق بك، وتصالحك مع صفاء الذهن..
فتحتُ قنينة عصير برتقال، وجلست أرنو إليه..
كان يرتدي قميصا أبيض شفاف ترصِّعه بقع من الألوان المثناترة.. تكاد ترى أضلع ظهره تتلوى في حرية، كأنهما يتشاركان في عملية الخلق.
تحس بأن جسده امتداد للوحة، يُخلِّط الألوان بأصابعه قبل أن يلامس اللوحة وكأنه يضع زينة على وجهه الخاص. حتى شعره الأسود والذي غزاه الشيب، كان ملطخا بالألوان لكثرة ما يزيح العرق المتصبب على جبينه، كلما انساب بين الفينة والأخرى..
أرنو إليه، وقد دخل في خشوع وتجمّد أمام مشهد سينمائي رائع في رقته.. ثم، وبكل تلقائية، أخرجتُ قلمي ومفكرتي من حقيبة يدي، وشرعتُ في كتابة بلون الدهشة.
مضى وقت وكل منا منهمك في ما يفعل..
وإذا به، يأخذ قماشا وينظف يديه، ثم يدسها في جيب قميصه الأبيض، وبكل تلقائية وكأنني غير موجودة، يخرج قطعة نقدية قديمة، يُقبّلها، ويغمسها في لون أحمر قاني ويُطبِقُه أسفل اللوحة.. موقعا إياها بأروع بصمة عرفها تاريخ الفن التشكيلي..
وبعدها توجه نحوي قائلا:
- كيفك يا ابنة خالتي، وكيف هي خالتي أم السعد..
تبسّم قليلا، وأكمل..
- لقد انتهيت، أتمنى ألا أكون قد أضجرتكِ..
قلت في سريرة أنفاسي:
- ليث الضجر كان بهذه الرقة لاعتنقته عقيدة وإيمانا..

تعليق عبر الفيس بوك