سيمولوجيا الصوت والصورة في قصيدة محمد حمودة

سهى عبود - سوريا


لا يخلو عمل إبداعي، شعرا كان أم مسرحية أم رواية... من خيوط الخيال، وإلا كان سردا تقريريا يخلو من الفن..
إلا أن أسلوب الصياغة، وحسن السبك، ورسم الكلمات يشي بأنّ ظلالا أخرى من الخيال تناوش الأحداث الحقيقية، ولو عبر الصور القلمية واللوحات الشعرية التي تصبغ القصيدة بروح الإبداع، حتى وإن طغى الواقع المرُّ على الخيال المحلّق..
ننصت أيضا إلى صوت الخيال على لسان الشاعر "محمد حمودة" وهو يبوح لنا بمكنون ظل يستوطن قلبه، قد يجانب الصدق أحيانا، بفعل أنها أحداث تكررت على مسامعنا، وأضحت مألوفة كوجع لذكرى عاشق.. هذا ما يتبادر للذهن بعد أن نقرأ النص للمرة الأولى، وبمعرفة مسبقة بأن الشاعر محمد حمودة شاعر عشق ورومانسية أكثر منه شاعرا فلسفيا.. لكن الذاكرة مثل العاصفة أو الجنون، عندما تستيقظ لا أحد يستطيع إيقافها..
نعم.. صدقَ  العملاق  والأديب واسيني الأعرج، في رائعته "طوق الياسمين".. ونبوءته تتجلى في قصيدة الشاب الجميل "محمد حمودة".. المعنونة " لم أسألكِ عن اسمك..؟"
حين تقتحم هذا النص الشعري، فأول ما يثيرك فيه هو سؤال عن الاسم؟ عن الهوية؟ عن حكاية تختلج القلب والروح معا؟ عن معاناة الشاعر مع اسم، قد يبدو مألوفا، أو إيحاءً؟ عن شخص مرصود في مكان جنوب تقاسيم وتجاعيد  الكلمات؟.. كلمات من ألم الوجود والهوية؛ بل ظل روح منفية قسرًا..
للوهلة الأولى، تجد نفسك مهيئًا لقبول إملاءات بوصلة التموقّع في مُتون وخرائط الأسطر وتضاريس الخوف من السؤال المنتصب كعلامة فارقة بين البداية: (لم أسألكِ عن اسمك.. كنتُ مشغولا بعض التعب..) والنهاية: (لكنك لم تجفّي بعد.. لم أسال عن اسمك لأنّي لم أنسه بعد.)
وأنت ممعن في القراءة بين أرصفة النفي والاستنكار – المبطنة - في كل سطر من القصيدة، تبدا أحساسيك في التفاعل مع خرائط النص وتتهاوى تباعا تفاصيل وحشة المكان المكتوف (خاصرتي تؤلمني من شدة النزف إليك..)، وتكف دوائر الصمت داخلك (هل أنت بخير؟.) عن الصمت الموجع (هل هو بكامل الحروف أم إن النقاط المدسَّمة بزيت الفراق غيرت مسار التهجئة..) الذي رسمه الشاعر بلغة بسيطة وانسيابية.. لكنها مستفزة لوضع سؤال أكبر.. لم أسأل عن نفسي..(أنا أيضا لم أسأل عن نفسي في حادث تعارف؟..)..
نعم هي مشاكسة فلسفية قَلَّ نظيرها في الشعر الرومانسي الحديث، الذي طالما تغزل بالحبيب أو الحبيبة.. مجتنبا، سؤال الاسم في الأخير.. ؟ لماذا أحمل هذا الاسم أو لماذا تحمل الحبيبة ذاك الاسم.. وهل الاسم هو عنوان صاحبه، أو فيه بعضٌ من شخصيته؟.. هل استحق هذا الاسم مثلا؟ ولماذا هذا بالاسم تحديدا؟.. (هل أدركت مدى تعلقي بقماش قلبي؟.. هل لحقني..؟..)
هنا، يتوغل بك النص الشعري، في الإشارات المغتالة تلو الإشارات والآهات المكتومة لك (عندما لمحتْ أطرافي نبضَ ثوبك..) على مهل تتنادى فيضا من كلام لم  يكتب (هل كان عليّ أن أعتلي مقعد التَّقوَّس..)، تتلقفه عيناك في عواصف وجع ليس كالوجع المألوف، وتقلك رياح المعنى إلى كل الأزمنة البئيسة المترسبة كمرفأ رمل قديم في غور ذاكرة القلب السليب المعلب برفات التاريخ والأمل.. و يبقى المحاصر حبيس الكلام المتاح.. (لم تعيريني اسمك ولو قليلا من المشاوير القليلة.. والمظلات المزدوجة لرأسين منكشفين وحتى القمصان المخلوقة من الورد.. لم تستمر في السيطرة على البقاء..)
الشاعر من حملة وشوشة الهَمّ الإنساني ومعتنقي قيم الحب الإنسانية الكونية المشبعة بنيترونات حب الحرية؛ بل استثانئ في كل شيء.. (تعربشت بك كثيرا وتمسكت بي قليلا.. ولو ببصيص من الضفة إلى الغزة؟..) في إشارة إلى فلسطين المحتلة وخنجر الاستيطان والاحتلال يفرق بين قلبين.. بين روحين.. بين اسمين.. بين حياة/ وسؤال الاسم ومعناه ومغزاه..
لا يملك القارئ بتاتا سوى التعاطف الفعلي حد التماهي - مع البطل /الشاعر/ محمد حمودة وهو يتقمّص شخصية النص - كل  بمكياله من الحمولة السيمانتيكية العامة.. ويكون له (أي القاريء) فرصة غصة تقضم عناصر الوجع المفرط في حنايا جغرافية القلب المستبد بكل زوايا أرض (الإنسان).. (.. وكنت قد تجزأت حين يبست حروفي على لسانك..)، ( كم قتلني التلعثم يا روحي ولم أتزنك.. كم قضمني باب غيابك كم وكم نشفت عيوني من الصور القديمة..)
هنا أو هناك (القاريء) يرغمه تمغنط النص على الوجع أن يميط اللثام ويقف عاري الوجه مبهم القسمات في مهب ريح القصيدة الجارفة من فضاءات البوح المسيجة بشتى أنواع الحلال والحرام على السؤال..
"لم اسألكِ عن اسمك..؟" ..
يمتلك الشاعر قلمًا رخْصًا يسيرًا، يرسم الكلمات على نحو بسيط عفوي مشوّق خالٍ من التقعّر والمعاضلة اللغوية، وهذا يصبّ في خانة رشاقة الصياغة وسلاسة القصيدة الحديثة..
النص آسر ومشحون بصور شعرية كثيرة مصحوبة بالسؤال المبطن والمشروع..  ويمضي في تيار الوعي بالقضية المصيرية.. من حيث توسّله أسلوب " المونولوج الداخلي" و"التداعي الحر للأفكار" ولو بصيغة سؤال استنكاري..
****
----- قصيدة------
لم أسألكِ عن اسمك..؟..
محمد حمودة - فلسطين

لم أسألكِ عن اسمك
كنتُ مشغولًا بعض التّعب، كانت خاصرتي تؤلمني من شدّة النّزفِ إليك
هل أنت بخير!
ماذا عن اسمك الآن
هل هو بكامل الحروف أم أن النّقاط المدسّمة بزيت الفراق غيّرت
مسار التّهجئة لاسمك!
أعتذر عن أسئلتي الملحّة، الملحقة بالملل
أنا أيضًا فقدت اسمي في حادث تعارفٍ قبل أن أتعرّف عليك
كم قتلني التّلعثم ولم أتّزنك حين
أردتك فداءً
هل أدركت مدى تعلّقي بقماش قلبك
هل لحقتني
عندما لمحت أطرافي نبض ثوبك
هل كان عليّ أن أعتلى مقعد التّقوّس ذاك
حتى يحدودب تفكيري أكثر لهذه الدّرجة الحزينة الأكثر
لا
لم تعيريني اسمك ولو قليلا من المشاوير القليلة
والمظلّات المزدوجة لرأسين منكشفين
وحتى القمصان المخلوقة من الورد، لم تستمر في السّيطرة على البقاء
تعربشتُ بك كثيرا وتمسّكتِ بي قليلا.
هل أحّدثك عن اسمي لتأتيني ولو ببصيصٍ من الضّفّة إلى الغزّة؟
اسمي: "محمدٌ" بعض الشّيء
وكنت قد تجزّأت حين يبست حروفي على لسانك
كان الميم
مصلوبَ فزعٍ
كان الحاء
مصبوغَ هلعٍ
والميم الثانية (إن كانت مشدّدة أو ممزّقة) كانت مطويّةً ومجروحةً
والدّال
أحالت قافيتي إلى البعد
كم قتلني التّلعثم يا (روحي)
ولم أتّزنك
كم قضمني ناب غيابك كم،
وكم نشفت عيوني من الصّور القديمة
لكنك لم تجفّي بعد.
لم أسأل عن اسمك لأنّي لم أنسه بعد.

تعليق عبر الفيس بوك