التربية والتعليم تحت المجهر

 

 

مازن الغافري

من المسلمات في العصر الحديث في كل المجتمعات؛ هو ظهور المؤسسات التي تعنى بالتربية، والتعليم التي لها كبير الأثر في حياة الفرد، والمجتمع ككل، وذلك من حيث إنّها تستقطب، وتستهدف مختلف الفئات المجتمعية على اختلاف مستوياتها، فهي المكوّن الأكثر أهمية في بنائه، وهندسة ثقافته الاجتماعية بما تقدمه التربية، والتعليم من منتجات ثقافية، وعلمية، وتربوية.

ربما فكرة ظهور مؤسسات التربية، والتعليم هي فكرة تاريخية ليست جديدة في الدول المتقدمة، والنامية، وربما أخذت أهميتها من الفكرة التي سادت المجتمعات منذ القدم: بأن التعليم هو أساس بناء الدول، والمجتمعات، وأنه مُنتج للسعادة التي يعيشها المجتمع المتحضر، والمتمدن، وأنّها السلاح الذي يمكن للفرد أن يتحصن به لمواجهة المستقبل الذي أصبح يعتمد اعتمادا كبيرا على مدى جودة التعليم الذي يحصل الفرد عليه، ومستوى الدرجة العلمية التي يرتقيها. ولكن ما مدى تطابق هذه الفكرة مع الواقع المعاش؟ وهل فعلا المؤسسات التربوية، والتعليمية هي أساس التقدم، والرقي المجتمعي بما تقدمه على مبدأ التعليم الكلاسيكي؟

لعل ظهور التعليم المدرسي، وظهور فكرة إلزامية التعليم لأفراد المجتمع من هم دون العمر القانوني قد رسّخت في نفوس المجتمعات الشكل الحالي، والصورة الحالية للتعليم كما نراه الآن، والذي يطلق عليه البعض بالتعليم الكلاسيكي، والذي أعتقد أنه قد أنتج اتجاها نمطيا لفكرة التعليم التي نراها الآن مستنسخة في كل الدول، والمجتمعات على سواء، والتي أصبحت تنتج عقولا ذات مستويات حد أدنى من التفكير، والابتكار؛ ذلك أن الطريقة التي يعتمد عليها التعليم الكلاسيكي إنما هي مبنية على تخزين قدر أكبر من المعلومات، والتي يتم تفريغها في وقت معين، وتنتهي صلاحيتها بانتهاء الحاجة إليها، أو مصلحة الفرد؛ حيث لا يستطيع الفرد تطبيق المعلومة في المجتمع، أو إعادة استخدامها في عمل مرتبط بحياته اليومية؛ كما أن الجيل السابق الذي بدأت فكرة التعليم النمطي المدرسي معه، يختلف من الناحية الفكرية، والحاجة الاجتماعية للتعليم، والطبيعة السيكولوجية عن المتعلم في الجيل الحالي، فالمتعلم سابقا أكثر ما ينبهر منه هو الكم، والقدر الكبير من حفظ المعلومات في وسط لم تكن فيه تقنيات المعلومات متواجدة، فلا سبيل له في استرجاع معلومة، وعرضها إلا من خلال حفظها في ذاكرته؛ أما المتعلم في العصر الحالي فأكثر ما يحتاجه هو أن يكون أكثر خيالاً، ولا يكون له ذلك إلا من خلال وسط حسي، واقعي يُنشئ بالتالي خيالا منتجا للمعرفة كما أنّه منتج للأداة المعينة له في مهنته، أو حرفته التي يعيش منها، ومن خلالها يسد حاجة المجتمع لمهنته.

إنّ التعليم منذ نشأته لم يتغير، ولم يبتعد عن اتجاهه الحالي كما نراه الآن؛ إلا فيما من الممكن القول عنه التفنن في تقديم المعلومة، وطرق ترسيخها في ذهن المتعلم بمختلف الوسائل، والاستراتيجيات التعليمية الحديثة؛ إلا أنّها في نهاية المطاف تصب في اتجاه واحد: وهي كيف تهيىء المتعلم لاجتياز اختبار نهاية العام الدراسي.

  كما أن اعتماد التعليم المدرسي على المناهج والكتب الدراسية، ومن ثم استفراغها في نهاية كل عام دراسي من خلال الاختبارات بمختلف أشكالها، وابتعاده عن الوسط الحسي للتعليم الواقعي المهني؛ أنتج مجتمعا لا يتصور أفراده إلا في قمة الهرم الوظيفي، وفي الوظائف ذات الطابع الإداري الخدمي، الوظائف ذات السمعة المرموقة البعيدة عن العمل الجسدي، أو حتى الفكري الذي يبذل من خلاله الفرد جهدا جسديا، أو فكريا في سعيه لإنجاز العمل؛ كما أنتج عددا لا يستهان به من العاطلين عن العمل الذين لا يتقنون حرفة، ولا صنعة يتجهون إليها بعدما أنهوا دراستهم خلال سنوات طويلة قد كلفتهم ما يعادل ثلث أعمارهم، فهم ينتظرون ضمن سلسلة طويلة دورهم فيما من الممكن أن تجود به حكوماتهم من خطط التوظيف، كما أنه أنتج جيلا -إذا صح القول- حاقدا وناقما على المجتمع؛ ذلك أنه يرى أن المجتمع هو المسؤول الوحيد عن توفير العمل له في ظل ما يمكن أن نطلق عليه عملا يليق به كفرد في المجتمع. 

  لا بد لنا أن نعي أن المجتمع في حاجة للمهن بمختلف أصنافها، وأشكالها بغضّ النظر عن نوعها وشكلها، فهي لابد أن تسد حاجة من حاجات المجتمع، كما أنّها تعتبر من أهم الموارد التي يعتمد عليها أغلب اقتصاد المجتمعات حول العالم، لا سيما إن كان أبناء وأفراد المجتمع نفسه هم المنخرطون بها؛ كما يجب تعديل نظرة المجتمع نحو العمل المهني  فالمجتمع أصبح ينظر لهذه المهن على أنها غير مُؤمِّنة لمستقبله، ولا توفر له الأمان الوظيفي الذي يرتجيه، ويحتاجه؛ مثلما يراه متوفرا من خلال العمل في ظل الوظائف الحكومية؛ كما لابد من إعادة النظر في التعليم، وصياغته بما يتناسب مع حاجة المجتمع، والدفع به نحو الإنتاجية المهنية، والفكرية؛ من خلال تعزيز الجانب العملي، والتعليم المعتمد على إنتاج جيل ذي قدرات إنتاجية صناعية، ومهنية وحرفية مختلفة حتى إذا انتهى من سنواته الدراسية يجد أن الأبواب أمامه مفتوحة على مصراعيها للانخراط في مهنة، وحرفة تمكنه من أن يبني مستقبله بيده دون انتظار رحمة الوظائف التي أصبحت مشكلة تعاني في توفيرها معظم الدول، والمُجتمعات حول العالم.    

تعليق عبر الفيس بوك