اللاقطبية كمقدمة للتعددية القطبية

ماهر القصير - السعودية
باحث في السِّياسة الدُّوليّة


يمر العالم بحالة من 'اللاقطبية' يتقلص فيها نفوذ بعض الدول الكبرى ويزداد لحساب دول أخرى وبروز لاعبين أقوياء جدد على الساحة الدولية ويعرفها ريتشارد هاس مسؤول التخطيط السياسي السابق بالخارجية الأمريكية الرئيس الحالي لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية الذي يصدر مجلة (الشؤون الخارجية): اللاقطبية هي "عالم لا تهيمن عليه دولة أو اثنتان أو عدة دول حتى، بل عشرات الفاعلين الذين يمتلكون أنواعاً مختلفة من القوة ويمارسونها. ويمثّل ذلك تحوّلاً بالغ التأثير بالنسبة إلى الماضي".
 واللاقطبية ليست حالة جديدة في العالم تاريخيا؛ بل هي الفترة التي تسبق تقاسم النفوذ والمصالح بين الدول التي تثبت قوتها وسيطرتها على المسرح العالمي مع أفول قوى عظمى أخرى, وفي فترة اللاقطبية يمر العالم بفترة انتقالية يترافق معها أزمة اقتصادية عالمية وأخطاء أوترهل القوى العظمى وصراع على المسرح الجيوسياسي والجيواقتصادي بينها وبين قوى إقليمية كبرى تحولت بفضل القوة الاقتصادية وضغط الإنتاج إلى قوة دولية تسعى للسيطرة على طرق التجارة والطاقة, عندها تخرج من حالة التركيز على المصالح الإقليمية إلى المصالح الدولية وتبدأ الاصطفافات والتحالفات الدولية وتقاطع مشاريع وتعارضها وبعد صراع التمدد والانزياح وممكن قيام حروب تتحدد القوة الحقيقية لكل تحالف فيبدأ التقاسم الدولي للعالم فهنا تبدأ القطبية سواء ثنائية أو تعددية فمثلا في القرن التاسع عشر شهد تعددية قطبية (القوى الأوروبية، بالإضافة إلى اليابان والدولة العُثمانية) وبعد ترهل هذه القوى و صعود قوى أوربية أخرى اقتصاديا أوربية (ألمانيا) وقوى قاريّة (الولايات المتحدة الأمريكية), في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين بدأت لاقطبية تسود العالم وكان نتيجتها الحرب العالمية الأولى في بدية القرن العشرين حيث إن الحرب العالمية الأولى كانت حربًا أوروبية غالبًا ولم تكن حربًا عالمية.
و"لكن طابعها التدميري الذاتي سجل بداية النهاية للتفوق السياسي والاقتصادي والثقافي الأوروبي على سائر العالم. ولم تكن أي دولة أوروبية قادرة بمفردها على تحقيق النصر، وبالتالي فإن نتيجة الحرب تأثرت إلى حد كبير بدخول دولة صاعدة غير أوروبية هي أميركا إلى النزاع. وفي ما بعد فإن أوروبا ستصبح بدرجة متزايدة، الطرف المستهدف في سياسة القوة العالمية بعد ان كانت الطرف الفاعل في هذه السياسة" فنرى هنا نهاية عهد و بداية عهد جديد ولكن لم يترسخ بشكل حقيقي بعد ولم تنته هذه اللاقطبية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية بعد مؤتمر(يالطا) فتحددت الدول التى تملك القوة والنفوذ الجيوسياسي وأفول القوى العظمى السابقة (بريطانيا و فرنسا) فبدأت القطبية الثنائية فأصبح العالم كتلة شرقية يقودها الاتحاد السوفياتي ويربطها حلف وارسو وكتلة غربية تقودها أمريكا و يربطها حلف الناتو.
ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي دخل النظام العالمي مرحلة الأحادية القطبية (الأمريكية) التي تميز بها عقد التسعينيات حتى بداية القرن الواحد والعشرين حيث يرى منظِّرو استمرار "الأحادية القطبية" أن صعود الصين وروسيا واليابان والهند، لن يؤثر على المكانة القيادية الأميركية، وستظل الولايات المتحدة قادرة على إخضاع الآخرين لسيطرتها. ولمواجهة صعود هذه القوى فإن كل ما تحتاجه الولايات المتحدة للبقاء في موقع القيادة العالمية والسيطرة هو تغيير سياساتها الخارجية أساسًا، ثم الداخلية.
والتغيير المطلوب الذي ينادي به هؤلاء المنظِّرون، يتخذ شكلين متناقضين بحسب موقع هذا المنظِّر أو ذاك. فمثلاً يدعو الكاتب الأميركي فريد زكريا رئيس تحرير أسبوعية "نيوزويك"، إلى سياسة أميركية غير إمبريالية وتعاونية مع الدول الأخرى، لأن ذلك سيعزز موقع أميركا ويضمن لها مواصلة قيادتها للعالم, حيث يرى زكريا أن الاقتصاد الأميركي ما زال الأقوى في العالم، والأكثر إبداعًا في أهم المجالات: الكومبيوتر، التكنولوجيا الحيوية، التعليم الجامعي، وكذلك الأكثر شباباً وديموغرافية على عكس المنافسين الآخرين (الصين، روسيا، وأوروبا - ما عدا الهند في هذه النقطة).
وإن القوة العسكرية الأميركية ما تزال الأقوى بشكل لا يمكن مقارنتها فيه مع كل القوى الصاعدة الآخرى. فحجم إنفاق أميركا العسكري يتجاوز حجم الإنفاق العسكري للدول الأربع عشرة التي تأتي بعدها من حيث القوة، كما أن حجم إنفاقها على بحوث العلوم العسكرية يتجاوز ما ينفقه بقيه العالم بأسره.
لكن نقطة ضعف الولايات المتحدة تكمن في سياستها، وهي السياسة التي تضعف كل جوانب تلك القوة، وتؤلَّب الدول الأخرى ضدها، وتفقدها نفوذها. وهكذا فإن الفرصة ما زالت مُتاحة للولايات المتحدة كي تُنقذ موقعها القيادي والمهيمن على العالم عبر تغيير السياسة.
في المقابل هناك من يرى أن شكل "التغيير" المطلوب في السياسة الأميركية يجب أن يكون في الاتجاه المعاكس تماماً: أي أن يكون أكثر إمبريالية وأكثر إصرارًا على تحقيق "أهداف الإمبراطورية الأميركية". ومن أهم المفكرين أصحاب هذا الطرح المؤرخ نيل فيرغسون في كتابه الشهير "الهيكل: صعود وأفول الامبرطورية الأميركية".
فـ"فيرغسون" يجادل في كتابه بأن الولايات المتحدة ربما تكون أضخم إمبراطورية عرفتها البشرية من كل النواحي، ومع ذلك فإنها لم تتصرف "كما يجب" أن تتصرف الإمبراطوريات لجهة تحمل المسؤوليات التي تترتب على "الامبراطورية". فسياستها الخارجية، كما هي الداخلية إلى حد ما، لم ترتق إلى مستوى "رعاية" مصالح من تسيطر عليهم.
والمسؤوليات التي يراها فيرغسون ملازمة شرطاً للإمبراطورية الأميركية، ولكنها فشلت في تحقيقها، تكمن في تبني سياسة هجومية أشد في العالم لجهة فرض ما تريد، وعلى مدى طويل. فهو يرى أن تردد الولايات المتحدة في تبني سياسة إمبريالية قوية وذات نفس طويل هو الذي أضر بها.
فالولايات المتحدة، ونخبتها السياسية وأكثر من ذلك شعبها، يحبذون تدخلات سريعة، قصيرة النفس، قليلة الأكلاف، لكن هذه التدخلات مخالفة لمنطق الأمبراطورية التي لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا عبر تدخلات طويلة الأمد، تفرض من خلالها التغيير الذي تريده في العالم (مثلاً خلق نظم ديموقراطية) حتى لو كانت مكلفة في بداية الأمر.
فيرغسون هنا ينطلق من رؤيته المؤيدة والداعمة لفكرة إمكانية وجود "إمبراطورية إمبريالية ليبرالية" تخدم مصالح بقية العالم كما تخدم مصالحها، ويرى في الولايات المتحدة إمكانية أن تكون تلك الامبراطورية. فهو لا يؤمن بعملانية "المجتمع الدولي" ولا القانون الدولي في مواجهة التحديات والأخطار الحقيقية التي تواجه أميركا والغرب عموماً. وهو من أكثر المؤرخين المعاصرين صراحة في الدفاع عن فكرة "الإمبراطورية الإمبريالية".
بطبيعة الحال هناك وجهات نظر لا تحصى تقريباً في تحليل "الإمبراطورية الأميركية" تحمل رأياً مغايراً مفاده أن سياسة الولايات المتحدة الخارجية قامت منذ منتصف القرن التاسع عشر على الإمبريالية التوحشية والتوسع، بدءاً بالجوار الأميركي اللاتيني، ثم في بقية أطراف العالم تقريبا من دون استثناء، بهذا الأسلوب أو ذاك.
 وقد تنبأت النظرية الواقعية التقليدية بنهاية الأحادية القطبية وبزوغ فجر عالم متعدد الأقطاب. ووفق اتجاه التفكير هذا، فإنّ القوى العظمى عندما تتصرف كقوى عظمى أو تعتاد التصرف بهذا الشكل، تثير منافسة من آخرين يخشونها أو يكرهونها.
وقد كتب كراوتمر الذي يؤيد هذه النظرية بالتحديد «لا شكّ في أنّ التعددية القطبية ستأتي في النهاية. ربما بعد جيل أو أكثر، سوف تنشأ قوى عظمى توازي الولايات المتحدة، ويكون العالم، بنيوياً، شبيهاً بما كان عليه في الحقبة التي سبقت الحرب العالمية الأولى».
إنَّ جزءًا كبيرًا جدًّا من الموازنة الأمريكية تذهب للإنفاق العسكري وإدامة حالة القطبية الأحادية العسكرية على العالم، وهذا الأمر يتطلب إنفاقًا إضافيًّا، مما يسبب زيادة العجز في الخزانة الأمريكية ولجوء الولايات المتحدة للاحتياطي الفدرالي لتسوية هذا الخلل والشرخ الذي حدث في الاقتصاد العالمي، لذلك تقوم بإجراءات لكي تساير الايقاع العالمي السريع فيما يخص النمو المتسارع لباقي الاقتصاديات العالمية، حيث انشغلت الولايات المتحدة في فترة ما بعد أحداث 11 سبتمبر بالحرب على الإرهاب وتأمين أمنها القومي العالمي، هذا الأمر جعل من باقي الاقتصاديات كالصين وروسيا والاتحاد الأوروبي إلى الانتعاش الكبير؛ وذلك لانشغال الولايات المتحدة الأمريكية في حروبها العالمية، بحيث إن الولايات المتحدة استنزفت نفسها كثيرًا خصوصًا بعد أحداث 11 سبتمبر حتى الآن، الأمر الذي أدى إلى ما وصلت عليه من عجز هائل وكبير في الاقتصاد، وكل ذلك سببه الإنفاق الكبير على الترسانة العسكرية والحروب الكونية.
 إن الولايات المتحدة حاليًا تعاني من تراجع حاد وكبير في قواها الاقتصادية, وذلك لسبب واضح وهو الإنفاق الهائل على الحروب والنزاعات وديمومة الهيمنة العسكرية العالمية، بالتالي فإن هذا الإنفاق يتناسب طرديًّا مع التراجع الاقتصادي في ظل أزمة دولية جديدة تعصف بالعالم، فكلما زادت المتطلبات العسكرية زاد العجز في الاقتصاد الأمريكي، حيث أصيبت الولايات المتحدة الأمريكية حاليًا بنصف شلل في القدرات وأمامها أحد خيارين: إما الدخول في حروب جديدة تبقي الهيمنة الأمريكية لوقت قصير قادم ولكن تسارع في انهيارها اقتصاديًا وبالتالي انهيارها كليًّا، وإما إيقاف هذه الحروب وإشراك الآخرين معها لكي ترفع عبئًا كبيرًا من النفقات العسكرية الهائلة، وبذلك تؤجل هذا الانهيار إلى إشعار أخر فقط.

تعليق عبر الفيس بوك