مفهوم التّذوّق الأدبيّ

أ.د/ محمد ناصر بوحجام – الجزائر

 

تباينت الآراء حول مفهوم التّذوق الأدبي تبعًا لتباين المدارس الفنّية في نظرتها وإدراكها لطبيعة الإبداع الأدبي؛ ولأنّ طبيعة التّذوّق لا تخضع لقواعد محدّدة فقد تشابهت المفهومات، إلاّ أنّ القدماء والمحدثين مختلفون في استخدامهم المفهوم، كما أنّهم مختلفون أيضًا في التّسمية: القدامى يستعملون عبارة: الذّوق الأدبي، والمحدثون يقولون: التّذوّق الأدبي. لا نناقش هذا الاختلاف في التّسمية.

أولا - التّذوّق الأدبي حاسة (1)
عرّفه  قلقيلة بأنّه: " الحاسّة السّادسة الحاصلة للإنسان نتيجة تمرّسه بالأعمال الأدبيّة والفنّية ووقوعه تحت تأثير حضارة خاصّة وثقافة معيّنة.". وقال عنه أحمد عوض إنّه "حاسّة فنيّة يُهتدَى بها في تقدير الشّعر والمفاضلة بين نصوصه، ومن خلاله تُدرك نواحي الجمال في العمل، ويتأتّى من خلال التّمرّس بالأساليب الأدبيّة والمران عليها وكثرة الاطّلاع؛ وذلك لصقل الموهبة وإرهاف الحسّ الأدبي." .

ثانيا - التّذوّق الأدبي ملكة الملكة الموهوبة التي يمكن من خلالها تقدير الأدب الإنشائي والحكم عليه، والمفاضلة بين شواهده ونصوصه. أشار ابن خلدون إلى أنّ الذّوق لفظة يتداولها المعتنون بفنون البيان، ومعناها: حصول ملكة البلاغة للسان. وتتحصّل هذه الملكة من خلال ممارسة كلام العرب وتكرار سماعه والتفطّن لخواصّ تركيبه (

ثالثا - الذّوق خبرة: عرّفه حسن شحاته بأنّه: "خبرة تأمّليّة، تبدو في إحساس القارئ أو السّامع بما أحسّه الشّاعر أو المبدع، وهو - في إيجاز- سلوك لغوي يعبّر به التّلميذ عن إحساسه بالفكرة التي يرمي إليها النّصّ الأدبي."

رابعا - الذّوق قدرة واقتدار وحكم: عرّفه عبد العزيز  بأنّه قدرة صاحب الطّبع الأدبي على بيان المزايا البلاغيّة التي تحدث في النّظم؛ بسبب الفروق والوجوه التي تكون بين كلام وكلام ،فيقف على أسباب الجودة ليحتذيها، وعلى أسباب الرّداءة ليتجنّبها في تأليفه ونقده. أمّا مصري حنورة فعرّفه بأنّه: قدرة تجعل صاحبها مستمتعًا بمواطن الجمال في العمل الأدبي والتّعرّف على جودة العمل ورداءته، وهو إحساس بما هو متناسق أو محكم أو جميل.

خامسا - التّذوّق الأدبي عمليّة تقويم وحكم. عرّفه ربيع شعبان بأنّه: الحكم الذي يُصدره القارئ على العمل الأدبي استجابة لنواحي الجمال في ذلك العمل من خلال تركيز انتباهه وتفاعله معه، على نحو يستطيع من خلاله الحكم عليه. وعرّفه سعيد خيري محمد بأنّه: تقويم الطالب للنّصّ الأدبي أثناء تفاعله معه عقليًا ووجدانيًا وجماليًا واجتماعيًا، معبّرًا به التّعبير عن مدى تقبّله للنّصّ الأدبي واستمتاعه به.

سادسًا - الذّوق الأدبي انفعال ونشاط وسلوك :عرّف محمود رشدي خاطر التّذوّق الأدبي بأنّه:انفعال يدفع الفرد إلى الإقبال على القراءة والاستمتاع في شغف وتعاطف، وإلى تقمّص الشّخصيّات التي في الأثر الأدبي وإلى المشاركة في الأحداث والأعمال والحالات الوجدانيّة التي تَصوّرها المبدع. وعرّفته ثريا محجوب بأنّه:نوع من السّلوك ينشأ من فهم المعاني المتضمّنة في النّصّ الأدبي والإحساس بجمال أسلوبه والقدرة على الحكم عليه وتأثّره بالصّور البيانية التي يحتويها. (2)

ماذا نقرأ في هذه التّعريفات السابق سردها؟:
(1)    إنّ النّظرة إلى التّذوّق الأدبي تختلف بحسب الثّقافة التي يحملها الشّخص الذي يتناوله، وبحسب الأهداف التي يسطّرها من معالجته النّصوص، وبحسب المجال الذي يشدّه، كالتّربية والتّعليم، أو الحقل الأدبي المحض وغيرهما. فإذا أكّد اللّغويّون أنّه حاسّة فنّية وملكة بيانيّة، وقدرة على الحكم. وركّز التّربويّون على كونه خبرة تأمّليّة جماليّة واستجابة انفعاليّة للنّصّ الأدبي..فإنّنا نسجّل أنّ بينهم اتّفاقًا على جوهر مفهوم التّذوّق، أو نقول بين النّظرتين تكامل، كلّ من الفريقين انطلق من طبيعة عمله، لكنّه كان يهدف إلى ما يرمي إليه الفريق الثّاني. وهو البحث عن الجماليّة في النّصّ ويقدّرها بحسب ما يطلبه تخصّصه وتهدي إليه اهتماماته وانشغالاته..

(2)    مهما يكن الاتّجاه الذي يحكم المنظّر، والاهتمامات التي تهيمن على نشاطه العلمي فإنّ القاسم المشترك في التّعريفات هو: البحث عن الجمال والحسن والمتعة والإبداع، وتنمية الوجدان، وإثارة الانفعال والعاطفة والحماسة في المتلقّي بطريقة معالجة الأثر الأدبي؛ قصد نقل عدوى التّأثّر فيه والإفادة منه: اقتداء وتقمّصًا لخصائص الشّخصيّات التي تعالج أعمالها الأدبيّة، والتّشبّع بالقيم التي تتضمّنها الآثار الأدبيّة, التي تسهم في تطوير الحياة، وتحريك الهمم...باختصار تظهر هذه الاستجابة وهذا التّأثّر في سلوك المنظّر وممارساته.

(3)    الإحساس بجمال النّصّ الأدبي، والقدرة على إصدار أحكام حوله.

(4)    هو ملكة، يقوم على الاستعداد الفطري، ينمو ويتطوّر بالممارسة والمران والتّأمّل في الآثار الأدبيّة، أي يكون صقل هذه الملكة بالخبرة، وطول الممارسة والمدارسة والتّمرّس...

(5)    التّذوّق الأدبي بهمّ الطّرفين: المبدع والمتلقّي: " للتّذوّق أهميّة كبرى بالنّسبة للمبدع وللمتلقّي على حدّ سواء، وتتّضح أهميّته بالنّسبة للمبدع بعدما ينتهي من عمله إبداعاً وتأليفاً، ويعود هذا الأديب: شاعراً أو كاتباً إلى عمله لينقّحه أو يراجعه، فيضيف كلمة، أو يحذف أخرى، أو يغيّر في عناصر الصّورة الأدبيّة، أو ربّما يعدّل فكرة العمل كليّة...

أمّا عن أهميّته بالنّسبة للمتذوّق أو المتلقّي فتبرز في أنّ هذا المتذوّق يعايش النّصّ الأدبي معايشة تكاد تكون كاملة، فيشارك المبدع أفراحه وأتراحه، في آماله وآلامه، ويسبح معه في عالم الرّؤى والخيالات، كما أنّ المتذوّق في قراءته للعمل الأدبي أو سماعه له ينفّس عن روحه بهذه القراءة أو بهذا الاستماع.  هذا من جهة، ومن جهة أخرى يبعث في نفسه التّواقة للجمال الإحساس بهذا الجمال، ويتمثّل هذا الجمال في عدة مقوّمات منها: طرافة الفكرة، وجمال اللّفظ جرساً ومعني، وجمال الصّورة تركيباً وبناءً، وجمال الأسلوب تأليفاً وتكويناً، وأخيراً صدق العاطفة في النّصّ الأدبي. (3)
 
هل هناك ثمة علاقة بين التّذوّق الأدبي والتّحليل الأدبي؟
إنّ التّحليل الأدبي الذي يعنى بتفكيك بنية النّصّ لمعرفة دقيقة وعميقة لمكوّناته، هدف إلى إدراك الخصائص التي تشتمل عليها كلّ العناصر التي يتركّب منها الأثر الأدبي ويشتمل عليها: الجانب الفكري، النّاحية الفنّيّة، القيم الإنسانيّة، وكلّ ما يتضمّنه النّصّ...وأثر ذلك في المتلقّين: فكرًا ووجدانًا وفنًّا وذوقًا، وفي خضمِّ حياتهم ومعتركها..إنّ هذا التّحليل يحتاج إلى حسّ مرهف، وانفعال عالٍ، وإدراك كبير، ووعي عميق...للقيام بالعمليّة وتحقيق الغاية منها. ما يوفّر هذا هو التّذوّق الأدبي الجيّد. فهو ولو كان شيئًا مغروسًا في نفس الفرد، إلاّ أنّ نموّه ورقيّه يخضعان لعمليّة الصّقل والتّهذيب والتّوجيه في الإبداع والإمتاع والإقناع...

"والذّوق الفنّي نفسه ليس هوى فرديًّا، بل هو استعداد فطريّ، واكتساب ذاتي في آن واحد، وكذلك الثّقافة ليست مطالعة النّصوص الخالدة وحسب، بل هي – إلى ذلك – إلمام بأطراف من العلوم الإنسانيّة، كعلم الجمال والفلسفة وعلم النّفس، ومع ذلك يُطلب من الدّارس الشّادي أن تكون قدمه راسخة، ورأيه مسدّدًا منذ الخطوات الأولى..." (4)

يعني هذا أنّ الذّوق من مكوّنات شخصيّة الإنسان، بل هو من مقوّماته، التي تؤكّد إنسانيّته، إنّما يحتاج إلى صقل وتنمية وتطوير ليؤدّي مهمّته أو وظيفته ليدرك الجمال الذي خلقه الله  في الأشياء التي أحسن خلقها، وأتقن صنعها، هذا الذّوق يدفعه أن يكون جميلا في سلوكه ومعاملاته وفي علاقاته مع المحيط الخارجي.

وفي الجمل الآتية نقرأ الجمال، وفي الكلمات الآتية نتملّى الحسن، وفيها نجد الدّليل المادي المحسوس على قيمة الذّوق السّليم في إيجاد الجمال، وتسجيل الحسن. قال الشّيح حمّو بن عمر فخّار ( 1337- 1426هـ / 1919 – 2005م) محيّيًا كوكبة من الشّباب أقاموا مهرجانًا ثقافيًّا، وكان أهمّ ما فيه مشاركات أدبيّة فنيّة بديعة، سجّل شعوره بالاغتباط والسّرور والانشراح بأسلوب رفيع، وكلم بديع، ينمّ عن حسّ مرهف، وذوق شفّاف: " والرّابطة المحكمة التي تجمعنا: حبّ الرّوعة، وتعشّق الرّفعة، والإعجاب بالإبداع والذّوق السّليم... لذلك – تجدنا – نعانق الجمال ونتملاّه من أيّ سماء نزل، وننشق العبير من أيّ روض فاح، ونرشف الماء النّمير من أيّ نهر تدفّق، ونرتاح للخرير على أيّ صخرة انحدر وانهمر...

4- نطرب للصّوت الرّخيم، لا نبالي حنجرته، ونغتنم  هبّ النّسيم، ولا نعارض وجهته..اليد الصّنّاع نربت على كتفها، والعبقريّة المبدعة نسبّح بحمد خالقها... أمّا سحر البيان فلشاعره منّا قلادة المديح، ولناثره عندنا صرّة من خزانة سخيّ غير شحيح.." (5)  

هذا الجمال هو حقيقة موجودة في الكون، يعلن عنها الفكر، ويصوّرها الفنّ أحسن تصوير، يقوم المتأمّل فيها باكتشافها، هذا فعل التّذوّق الأدبي. يقول محمد المبارك: "...فالفكر يسجّل الحقيقة وبعبّر عنها، وقد ينشئها ويدفع إلى تحقيقها، والفنّ يصوّر الجمال ويعبّر عنه، وقد ينشئ الجمال ويبدعه، والحقيقة والجمال في الحياة والطّبيعة ملتقيان، فالشّجرة والنّهر والزّهرة والشّوكة والجبل والسّهل والشّمس والقمر والنّجوم والفراشة كلّها حقائق من حقائق الكون، ولكلّ منها جماله." (6)

الهوامش:

(1)    لم أتعرّض لما ذكره ابن منظور في الموضوع؛ لأنّه لا يخدم ما نحن بصدد معالجته. فقد ذكر أنّ (الذّوق) مصدر (ذاق)و(المذاق) طعم الشّيء، و(الذّواق) هو المأكول والمشروب. والذّوق فيما يكره ويحمد. لسان العرب المحيط، المجلّد الأوّل، إعداد وتصنيف يوسف خياط، دار لسان العرب، بيروت، لبنان، (د.ت)، ص: 1084. ذكر الدّكتور راضي حنفي نقلاً عن ماهر شعبان عبد الباري وكتابه: التّذوّق الأدبي: طبيعته، نظريّاته، مقوّماته، معاييره، قياسه: هناك  علاقة وثيقة بين الذّوق الأدبي والتّذوق الأدبي، حيث إنّ التّذوّق عمليّة "process" والذّوق الأدبي مُنْتَج"out put".  . ينظر موقع منتديات بوابة العرب http://vb.arabsgate.com.  
(2)                                      
        ينظر الدّكتور راضي فوزي حنفي، "مفهوم التّذوّق الأدبي" موقع منتديات بوّابة العرب http://vb.arabsgate.com
(3)    ينظر موقع النّيل والفرات  www.neelfurat.com http:||     
(4)     عبد الله الطّنطاوي، محمد الحسناوي، في الدّراسة الأدبيّة، تذوّق النّصّ الأدبي، دار الضّياء للنّشر والتّوزيع، عمّان، الأردن، 2001م، ص: 8، 9.
(5)       الأستاذ حمّو بن عمر فخّار، وقفات ومواقف، نشر جمعية التّراث، القرارة، غرداية، الجزائر، 2002م، ص 10.
(6)    المرجع نفسه.                                           

تعليق عبر الفيس بوك