البؤر الحضريّة المقدَّسة بين الرُّوح والعمران

أ.د/علي ثويني خبير معماري باليونسكو – السويد

 

ارتبطَ تأسيس المدن بالطابع المتداخل مع الإيمان الفطري. وفسرت تسمياتها على أسس الإسطورة والخرافة وساذج القول، وعّد العراقيون الأوائل أن (أوروك) شيدتها الآلهة بنفسها لتحميها، ومازالت ثقافات كثيرة ومنها العربية تذهب إلى تأويلات أسطورية في تسميات المدن، يصل أحيانا حد السذاجة والتحريف والتخريف. فقد تصاعدت وتيرة الحاجة للمدينة الحامية المغدقة بالنماء والمسبغة بالأمن، حتى عدّت بيتا جماعياً حامياً، كما ورد في نص من ملحمة گلگامش، حينما نعتت (كيش)/ (تقع على تخوم جنوب بغداد) بالبيت، وأوصت الملحمة:

على بنَّائي البلاد أن يحفروا أسساً متينة
وحين هبطت الملوكية من السماء
من بعد أن أُنزل تاج الملوكية السامي من السماء
أسّست المدن..
بعد أن عينت مواضعها وسميت بأسمائها.

وظن العراقيون الأوائل أن ما يحدث في السماء يقع نظيره في الأرض، وأن الآلهة خلقت البشر لخدمتها، كما هو وارد في المفهوم الإسلامي. والمدينة بما فيها من أرض وموارد هي مُلك (الآلهة الحامي)، وأنه اختار من بينهم الملك لتمثيله في الأرض وتنفيذ أوامره وتعظيمه، لذلك فمن أولويات وأجب الملك قيادة شعبه لرفع شأن ومنزلة الآلهة (الوطني الحامي)، وهو ما يجسد رفع شأن مدينته ومنزلته بين الملوك. كما أن نظام الملوكية قام أصلاً على أساس ديني وأن العلاقة بين الملك والآلهة "الحامي" تتمثل في أن انتصار الحاكم في الحرب بما يعزز دوره ومنزلته ورخاء مدينته. إن الملوك الآشوريين الذين بسطوا سيادتهم على أراض وصلت حتى مصر و ليبيا واليمن من جهة وبحر قزوين من جهة أخرى، لا يعدون أنفسهم أكثر من عبيد يسعون لأرضاء آلهتهم آشور.

وظن العراقيون أن المدن منزلة من السماء وأولوا العلاقة بينها وبين العالم السفلي، وتحدثوا عن مصير المدينة وطالعها، وأن لكل مدينة برج في السماء مثل البشر. فكانت (سيبار) حصة السرطان، و(نينوى) للدب الأكبر، و(آشور) في برج النعش. وواشج الفرعون إخناتون في مصر (حوالي العام 1370 ق.م.) قدسية المدينة بالسماء. ونقرأ أن ملك "آشور" "سنحاريب" كان يذهب إلى أن نينوى من أجل التحضير لها في  السماء بمعين معبدها ومركزها المقدس، الذي جاء بامر إلهي قبل أن يرسى على الأرض!. وهذا المفهوم ورد بعينه في حكمة الملك (سليمان) في أساطير التوراة (العهد القديم) بأن يجد لأتبّاعه مكانا في الجبل المقدس ومذبحاً ليسبغ عليهم الحماية من "الرب". وشاع نفس المفهوم عند قدماء اليونان، حيث يجردها أفلاطون من العلاقة الجرمية لكنه يقر بصفتها الأسطورية المثالية وأشار إلى سطوة نجم فايدروس (Phaedrus)  عليها. وقد سمعنا من ألسنة العامة في مدينة أﮔرا الهندية إسطورة هبوط ضريح تاج محل أو تصميمه من السماء ليثبت بمعجزة على الأرض!.

وعد السومريون (أور) مركز العالم، ثم انتقل المفهوم لبابل المستوحى أسمها من (باب- أيل أو باب الإله) ضمن الاعتقاد أنها مكان ولوج الآلهة للأرض. وهذا ما جعلهم يسمونها (سرة الدنيا)، ووجد رقم طيني يحمل خارطة الأرض الكروية وكانت مركزها بابل وبرجها (زقورتها) يمثل صلتها مع السماء. ومن الملفت للنظر أن تصويرهم للعالم السفلي كان يحاكي هيئة منارة الملوية الإسلامية في سامراء، وربما كانت شكل برج بابل أو زقورتها هك> قبل أن يجسدها معمار الملوية دليل بن يعقوب النصراني. وإن مفهوم النهر الذي يحيط بالأرض ومركزه بابل كان قد أخذ أصلاً عن سومر التي مثلوها بالجنة المحاطة بالأنهار مثلما هو المفهوم الإسلامي.

وفي الإسلام عدت مكة المكرمة وكعبتها المشرفة تحديدا مركز الكون، وتجسدها بؤرة القبلة وهالات القدسية وسط صفوف المصلين. ويذهب المؤرخ الروماني ميرجة إلياذه (Mircea. Eliade1907-1986) بأن الحج إلى الأماكن المقدسة (مكة والقدس مثلاً) هو توق للنفس البشرية لزيارة بؤرة الأرض ومركزها.

وكان للمفهوم التوراتي أثر على العقلية الغربية عموماً، بما يتعلق بسماوية المدينة، حيث مكثت مدينة القدس الفلسطينية تمثل النموذج المثالي لها، حينما صنعت في السماء قبل ان يشيدها الناس على الأرض. ويقر السوري أبو كالبس الباروخي الثاني بأن القدس السماوية نقشها الإله بيده على الأرض ليريها لآدم قبل أن يقترف خطيئته. ومكثت القدس القادمة من السماء مصدر إلهام شعراء اليهود وأنبيائهم . حيث إن (حزقيال: 2:40)، يذهب بان المدينة زفت من السماء كعروس.ويقر (يوماYoma ) اليهودي بأن نشوء العالم بدأ من جبل صهيون وتحديدا من المدينة المقدسة، التي ضمت رفات ادم نفسه، وهذا ما إنعكَسَ في المسيحية تباعا.وأعتقد الرومان بعالم mundus وأن حفر الخندق المغمور بالمياه حول المدينة يعد نقطة لقاء العالمين العلوي والسفلي.

وسعت المدن إلى القدسية بكل ما أوتيت، فها هي مدينة البندقية (فينيسيا) الإيطالية، وإبان منافستها لروما والقسطنطينية والقدس، اضطرت إلى سرقة رفات الحواري (القديس) مرقص(Marcos)  من الإسكندرية (بعضهم يقول المنيا) في مصر دون الرأس عام 828 م بيد بعض تجار فينسيا، وشيدت عليه ضريحاً صرحياً ليسبغ قدسيته على المدينة وبركته على تجارتها.وهذا المفهوم مكث من ثوابت الظواهر الحضرية، حيث سعت كل المدن والدول أن تحيط نفسها بتلك الهالة من القدسية حتى الواهية منها، حتى أمست ضمن سياقات التجارة بموارد الأضرحة، وسبب في نزاعات بين الدول وتكفير بين المذاهب.

ونجد ظاهرة البؤرة المقدسة الباسقة قد تجسدت في آشور وأربيل وكركوك وحلب والقدس، وضمت المعبد وملحقاته، وأمست أحياء وأرباض تباعاً. لقد إنتقلت تلك الأعراف إلى اليونان بعد الف عام، وتجسدت في الأكروبوليس وتعني أرض المدينة العالية وبوليسpolis  تعني المدينة، وأكرا-akros   تعني الأرض، أو الارض العالية من السومرية والأكدية و تطابق كلمة (عقرة) التي أحتفظت بها اسم مدينة سريانية في شمال العراق ومنها وردت  agriculture)أكراكلتور) في اللاتينية التي عنت الزراعة وفحواها (تشذيب الأرض)،و مازال في اللغة العراقية الدارجة بصيغة (عكرة)، وتعني مرتفع الأرض.

لقد بنى المدينة المرتفعة بريكليس Perikles للآلهة أثينا لتطل بعين الرضا أو السخط على المدينة ، بحسب أعمال سكانها ، ويلوذون إليها "بمشيئة (الآلهة)" هربا من اي هجوم داهم، كونه الموقع العصي على الإقتحام والقابل للحماية والمهيمن على محيطه.وإنتقل هذا التقليد للرومان ، ودعي (الكابيتول) اي (الرأس المطل) وحمل نفس المهام. وحري الإشارة إلى أن هذا التقليد في بناء المدينة المرتفعة من الأعراف الآشورية المتجسد في أربيل وكركوك وحلب وتلعفر، تحول إلى بناء القلاع ولاسيما في العمارة الإسلامية ونفذ في الأندلس 400 قلعة وسميت المدن قلاع كما بني حماد في شرق الجزائر، وطبقه صلاح الدين الإيوبي في قلعته على المقطم بمصر،والصليبيون في الشام، ثم أنتقل ليكون منهج لبناء قصور النبلاء والإقطاع بأوربا على ذروات التلال والجبال أو (البرج Borg) الذي ورد منه مفهوم (البرجوازيه) الفرنسي، أي سكنة الأبراج. وأصبح دالة مدن قامت محلها ومحيطها كما هامبورك وأدنبورك (أدنبره) وستراسبورك...الخ.

ويقترن أسم (بيزنطه) بموقع ميناء آشوري أو فينيقي ، ويعني(بيز-آنات) ضرع (آنات) وهي إحدى الآلهة التي جلبوها من سومر(أنانا) وتعني مجازاً ميناء الأناضول، التي تسمى (أناتوليا) أي بلاد أنات.قبل ان تتحول إلى عاصمة كبرى و اسمها (قسطنطينوبوليس) أي مدينة قسطنطين الروماني الذي هجر روما من أجلها عام 330م،ثم (إسلام بوليس) اي مدينة الإسلام بعد فتحها من قبل محمد الفاتح العثماني عام 1453م، ثم تحولت لـ (اسطنبول) عند العثمانيين حتى اليوم.

ونجد أن فينيسيا وبونه (عنابة) مازالتا تحتفظان بأسم (فينيق) الكنعاني. وقد سبقت الوحدة المنهجية لمدائن فينيقيا التجارية في أصقاع شتى مدن اليونان، التي نشرها الاسكندر المقدوني في الأصقاع بعد سبعة قرون بإسم (الإسكندرية)، وتعدت اليوم السبعين مدينة. ومنهج تلك المدائن التخطيطي يدعى (رقعة الشطرنج Grid Pattern) المتكونة من الشوارع المتعامدة. ثم جاءت منهجية المدن الرومانية ذات الطابع العسكري على خطوط التجارة والقوافل كما في لبده وتيبازة وبصرى وتدمر (بالميرا) ، أي مدينة النخيل. وحري الإشارة إلى أن مدينة بابل بنيت قبل ذلك بـ1700 عام على منهج المربعات  المتعامدة هذا، أي لا ريادة لليونان في كل مايدعي الغرب بذلك ضمن (المركزية الغربية).

ولم يعتن المعمار والمخطط اليوناني بالإنسجام والتوافق المديني للمبنى، من الناحية الحجمية والشكلية والموقعية والتجانس البصري ،كما هو الحال في سومر وبابل ومصر والشام مثلاً، حيث أعتنى بالجانب الصرحي والهيكلي للمبنى كوحدة قائمة بذاتها.وحري الإشارة إلى تقليد التخطيط الحضري الشامل والمتكامل، الذي نقله المخططون الشاميون إلى روما لاحقا، ولاسيما مساهمات المعمار ابولودور الدمشقي(60-125م)، ونراه جليا في منتدى(فوروم)، أو مركز روما الحضري على أساس الكل للجزء والجزء للكل، بشكل ما ندعوه العضوية التصميمية.

تعليق عبر الفيس بوك