"رَحِم اليَبَاب"..صَنْعَاءُ وأُفُق شَاعريّة الجَهْمِيّ

...
...
...
...

الناقد / عبد الجواد خفاجي - مصر

 

منْ ذاْ يَـــدقُّ الآنَ بَابِـــــيْ
وَأَشـمُّ فيْ يَـــدهِ رِغَابِـي ؟
مَنْ ذاْ يَنُـثُّ
سَنَا النُّجوم ِالمعُشِبَـاتِ
عَلـىْ ثِيابيْ؟!
منْ ذَا ؟!...
وَأَلمـحُ سَجدةً للُّنـورِ
تهـزأُ بِاضطرَابي...
أَنْسـامُ!!...، مَـا أَبهاكِ!...
كَيفَ دَنَـوتِ
يَا عَبقَ الشَّبابِ!
أشْهـىْ منَ اللَّحنِ الطَّروبِ
يَبثُّـهُ ثَغْـرُ الرَّبـَابِ
(وأَحنَّ منْ كفِّ النَّسيمِ )
تَضُوعُ
فيْ رِئَةِ الهضَابِ
أَنْسـامُ!!
وَانْسَكب المدَىْ...
فَاخْضَـرَّ فيْ شَفَتيْ عِتَابيْ:
مِنْ أينَ جئتِ؟!
وَكُنتِ قَبْــلُ
أَعَـزَّ منْ ماءِ الشِّهَابِ
فيْ حَشْرَجـاتِ المسْتَحيلِ
وَبَيـنَ أَقبْيِـةِ الغِيـابِ
فَتَّشْتُ عنكِ
فَكانَ سَوْطُ التَّيـهِ
فيْ وَجْهيْ
جَوابـيْ
رَاسَلْتُ (مَـأربَ)
علَّ (جَهْمَ) تسُـوقُ
عَـابِقةَ السَّحابِ
عَلِّي أزمِّلُ
بابتهالاتِ الـرُّؤَى
قَفْـــرَ ارتيابِيْ
صُلِبَ الرَّسـولُ وَعادَ ليِْ
بِالعَرْشِ مَ سْ ل ُ وْ بَـ اً
غُرَابـيْ
وأَتَيْـتُ قَـارِعَةَ الشَّمالِ
فأَنْكَرتْ (مَـرَّآنُ) مَاْ بيْ
كُلُّ المرَافِــئِ أَنْكَرتْ
بَوحِـيْ
وَأَعيـاهَا طِلابيْ
حتَّى (المليحـةُ) حفَّها
(لهبٌ يَحِنُّ إلى التهابِ)
صنعـاءُ ياْ أَنْسَـامُ
توغلُ في الجـرَاحِ
بِلاْ حِسَابِ...!!
منْ أَينَ؟؟!
لِلْمَعْنَـى فَمٌ
أَظْمَتْـهُ أَخْيِـلةُ التُّـرَابِ...
مَا زلـتِ ليْ سِـرَّا
يُفَسِّرُ
فيْ لَظَـى المعنَـىْ
انْسِكَابيْ
أَمْـطارَ قَافيــةٍ
تُصَلِّي ماْ تَشــاءُ...
عَلىْ قِبَابِي
وَحَفِيـفَ تَرحَــالٍ
إِلى جَفْنِ السَّماءِ
بِلا إِيَـابِ
إطلالةَ الأمل ِ المُدلَّى
من تناهيدِ العذاب ِ
مَازلتِ
نَفْخةَ عُشْبةِ الأَحْـلامِ
فيْ رَحِــمِ اليبَـابِ
تجربة "نفخة في رحم اليباب" للشاعر اليمني أحمد عبده الجهمي الفائزة بجائزة أفضل قصيدة ضمن جوائز مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري للدروة الرابعة عشرة دورة "ابي تمام الطائي" التي نظمتها المؤسسة بالمملكة المغربية في 21 أكتوبر 2014م. تمثلت شعورياً من خلال إطلالة الأمل، وموضعياً من خلال إطلالة "أنسام" لتصير "أنسام" معادلاً موضوعياً لحضور الأمل الذي كاد أن يندثر وسط حجم اليباب الهائل مقارنة بالنفخة على ضآلتها، بَيْدَ أنها نفخة في الرحم، قد يتأتى بها وبسببها مولود جديد/ أمل جديد وإن بدا صغيرا، مجرد لمحة، (وألمح سجدة للنور تهزأ باضطرابي).. ورغم أنه مجرد لمحة، ونفخة.. وهما مفردتان توحيان بالضآلة، وبالممكن الحثيث الذي سيصير، ومع هذا فقد بدا ممكناً أكيداً ويقينياً وجميلاً، وقد بدأ هازئاً بالقلق الذي يستبد بالذات الشاعرة... لتنفتح التجربة على المستقبل الذي تبدأ بشائر ميلاده من لحظة حاضرة، رغم الواقع الملبد بالمآسي الكثيرة والكبيرة، إلا أن ظهوره كان قدرياً، أو استجابة قدرية على أحسن احتمال، مباركاً كنفخة روح القدس في رحم مريم.

لقد تجسدت التجربة من خلال مجموعة من المفردات والتعبيرات الموحية بهذا الذي سوف يصير، بالمستقبل البهي، وبالأمل المتخلق لتوِّه من رحم المعاناة هازئاً بما يرسخه الحاضر المأساوي في قرارة الذات الشاعرة، ومن هذه المفردات والتعبيرات نعاين: (النور، أنسام، ما أبهاكِ؟، عبق الشباب، أشهى من اللحن الطروب، ثغر الرباب، كف النسيم، تضوع،  أشهي، أحن..)، ولعل هذا الأمل المتخلِّق في رحم الواقع المأساوي، لم يكن فجائيا، بل جاء بعد طول انتظار، ومحاولات بحث مضنٍ بين خُلل الواقع الصادم، لقد حفل النص بكثير من الأفعال والتعبيرات التي تشف عن هذا الانتظار الطويل والبحث المضني الذي خلنا معه كما كانت تخال الذات الشاعرة ألا مستقبل وألا خير وألا أمل يرتجى: (من  ذا يدق بابي ؟" تساؤل يوحي بطول الانتظار، وهو تساؤل متكرر في النص، يؤكد معنى الانتظار الممض المستيئس.

وكذلك: "من أين جئتِ؟" تساؤل يوحي بالدهشة والمفارقة والمفاجأة في آن، فكل الدلائل والمؤشرات تؤكد ألا حضور، حقيقة من أين جاءت أنسام؟.. وحيث أن أنسام لم تجب، ليتأكد لدينا أن المسألة قدرية، وأن خلف المجيء الأسطوري هذا ـ رغم كل المعوقات ـ فعل قدري يؤكد قدرته على إحداث المفاجآت السارة؟.. أو لكأن "أنسام" تختزن قدرتها على المجيء فوق جثة الواقع المعاند والغبي؛ لتشكل واقعاً مغايراً، متعالية على كل محاولات منعها من الحضور، ربما لأنها تمتلك من الخصائص الذاتية ما يجعلها فوق إحباطات واقعها ومعوقاته خصوصاً أنها أتت من "رئة الهضاب" فهي تملك خصائص تربطها بالعلو في مقابل السفح/ الواقع المحبِط. وقد أتت في مقابل اللهب والالتهاب لتكون برداً وسلاما.

الحقيقة أن اختيار المفردة (أنسام) كان ذكياً، ورامزاً وقد انحصر النداء في آخر النص إلى صنعاء، وكأن الذي أتي حقيقة هي صنعاء الجديدة بردائها البهيّ وقد تبدل الواقع الكئيب اللهيب إلى أنسام.
إن التساؤلات بما تحمله من دلالات وإيحاءات ـ على النحو السابق ـ عاضدتها في النص مجموعة من الأفعال التي تؤكد طول مدة البحث المضني والانتظار الممض، من عينة: (فتشت عنكِ، راسلت، أتيت..) وهي أفعال تؤكد أيضاً معاناة الذات الشاعرة في بحثها عن ممكنات جمالية في واقع قبيح صارم، وفي بحثها عن الأمل وعن فرجة في واقع هو مأساوي على أحسن توصيف له، فقد كانت المعاناة مستفحلة، وردود الأفعال صادمة، مثلتها نصوصياً مجموعة من التعبيرات التي تشي بتجهم الواقع وتكتله في وجه الأمل والحلم بغدٍ أفضل، وحيث كانت الذات الشاعرة دائما في مواجهة مع التيه، ومع المفارقة، ومع العذاب، ومع ما يُخيِّب ومع الاستحالة، ومع اليأس، ومن عينة هذه التعبيرات: "سوط التيه في وجهي جوابي،  صلب الرسول، أنكرت مرآن ما بي، المرافئ أنكرت بوحي، أعياها الطِلاب" ولهذا كانت الذات الشاعرة مسيجة برؤيتها المكتئبة: "قفر ارتياب"  كما كانت محاصرة بالعجز والاستحالة: "أعزُّ من ماء الشهاب ، حشرجات المستحيل".

والحقيقة أن النص حافل بالاستخدام اللغوي المجازي، واللغة الموحية الدالة، ولهذا فإن النص يحقق شرطاً مهماً من شروط النص الشعري الجيد وأعني به التكثيف الشعري، بوصفه شحن المفردات بأكبر طاقة إيحائية ودلالية، ففي الوقت الذي يعنى فيه الشاعر بالاقتصاد في استخدام اللغة يعنى أيضاً بشحن هذه اللغة بطاقة إيحائية ودلالية ورؤيوية كبيرة، عندها نقول إنه حقق عنصراً مهماً من عناصر الكتابة الشعرية التي تبعد عما هو غير دال، وتنحى عن الثرثرة الموقعة في اللاشعري، ومن ثم يخلو النص من الفجوات غير الشعرية، وغير الدالة، مركِّزاً على الجمل الإشارية الحرة التي ينفتح معها ذهن المتلقي على موحيات نفسية وثقافية كثيرة، وغير ذلك كان النص مجسداً لصراع الثنائيات بين الذات الشاعرة والواقع والمفارقات المتوالدة عن هذا الصراع.

فقد بُنِيتْ التجربة من خلال صراع ثنائيات: (الذات الشاعرة بيقينها، والواقع بلا منطقيته وعبثه)، و(رخاوة الحلم، وصلادة الواقع) (اليأس، والأمل)، و(الحاضر، والمستقبل), (الماضي، والحاضر)، و(الممكن، والمستحيل)، هذه الثنائيات التي اعتملت في التجربة وصاغتها وشكلت رؤية الشاعر جاء النص معبراً عنها باقتدار من خلال ثنائيات نصِّية سواء ثنائية الخطاب الشعري بين الخبر والإنشاء، أو ثنائية الأفعال بين الماضي والمضارع، أو المقابلات الدلالية: " ابتهالات الرؤى" في مقابل "قفر ارتياب"، و" أنسام" في مقابل "جراح"،و "إطلالة الأمل" في مقابل "تنهيدة العذاب"، غير أن التقنيات الشعرية أيضاً كانت مؤكدة لصراع الثنائيات، فكما استخدم الشاعر (الفلاش باك) استخدم (الاستباق) لتتحقق ديناميكية النص، وليتحقق أمامنا نص ثري بالحركة والإثارة وتوالد الدلالات.

كما كانت اللغة معبرة عن المفارقة الناتجة عن صراع هذه الثنائيات من عينة: "صلب لرسول، والعرش المسلوب، والتوغل في الجرح  بلا حساب، والمعنى المحاصر بالتراب واللظى"  غير أن المفارقة الكبرى أن ما كان معروفا "هدهد" كرمز للمعرفة واليقين والسرعة، والقدرة، تحول إلى "غراب" ليصير رمزاً للشؤم والسواد والصوت المزعج المنفَّر، ومن ثم فإن سليمان النبي/ الشاعر بالنظر إلى دوره الرسولي أضحى بغير يقين، بل أضحى بغير دوره يمضي وكأن الواقع يتأباه كما يتأبى عليه.

من خلال صراع الثنائيات والمفارقات كانت تتأكد الهوة بين ما هو ماثل وما هو مأمول، وهي هوة شاسعة استوجبت كل الأسئلة التي بدأ بها النص، ما أن ظهرت أنسام، التي لم يكن تتوقع الذات الشاعرة حضورها لتجتاز هذه الهوة, .. هي هوة شاسعة تؤكد معني "المستحيل" الذي سيَّج نظرة الذات الشاعرة وأحاطها بشعور العجز، بل كان دافعاً إلى التغرب أو الشعور بالغربة عن الجغرافيا من جهة، ومن جهة أخرى عن الواقع لتعيش في واقع افتراضي.

الصور الشعرية أيضاً كانت حاضنة لصراع الثنايات ومعبرة عنه، فبعضها يصور الفرحة والدهشة من خلال التركيز على وصف "أنسام" وتحولات اللحظة الشعرية بعد حضورها:
"أَنْسـامُ!!... مَـا أَبهاكِ!.. ../ كَيفَ دَنَـوتِ/ يَا عَبقَ الشَّبابِ! / أشْهـىْ منَ اللَّحنِ الطَّروبِ/ يَبثُّـهُ ثَغْـرُ الرَّبـَابِ." و"أَحنَّ منْ كفِّ النَّسيمِ" وكذلك: "تَضُوعُ/ فيْ رِئَةِ الهضَابِ/ أَنْسـامُ!!/ وَانْسَكب المدَىْ.../ فَاخْضَـرَّ فيْ شَفَتيْ عِتَابيْ"، أو واصفاً الصورة القاتمة للواقع الذي عايشته الذات:
"فَتَّشْتُ عنكِ / فَكانَ سَوْطُ التَّيـهِ/ فيْ وَجْهيْ/ جَوابـي/ رَاسَلْتُ (مَـأربَ)/ علَّ (جَهْمَ) تسُـوقُ/ عَـابِقةَ السَّحابِ/ عَلِّي أزمِّلُ/ بابتهالاتِ الـرُّؤَى/ قَفْـرَ ارتيابِي". كما جاءت الصور موزعة بين ثنائية الداخل والخارج، فتارة تصف الشعور الداخلى وتارة تركز على وصف الواقع وقبحه وما كان منه.

بدت التجربة الشعرية متسعة بقدر اتساع الرمز "أنسام" التي التحمت بالوطن في نهاية التجربة، ومن ثم كانت التجربة حاضنة للجغرافيا: (مرآن، المليحة، المرافئ، صنعاء) كما كانت حاضنة للتاريخ والهوية: (مأرب، جهم ). الحقيقة أن النص يحقق شرطاً آخر مهما من شروط الشعرية، وأعني به التكاثف الشاعري، بوصفه توفير أكبر قدر من العناصر الجمالية القادرة على إحداث الأثر التخييلي، وتحقيق أدبية النص.

تعليق عبر الفيس بوك