سؤال في التفسير:

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (10)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيديّ – جامعة نزوى

 

تفاوت كل من تصدى لبيان معاني القرآن الكريم في الوقوف على سورة الناس، فمنهم من لم يقف على الآيات الثلاث التي بدئت بها السورة (20). ومنهم من وقف على الآيات موضع السؤال وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى، وهي على وجاهتها وحسن تأتّيها لما تنطوي عليه هذه الآيات من معانٍ لم يترجّح عندي مذهب منها، ولكنها ولها الفضل هدتني إلى مذهب فيها سنذكره لاحقاً بعد أن نفرغ من ذكرها على سبيل عرضها والتقاط ما نراه مؤيداً لنا:
قال الطبري (ت310هـ):"قل يا محمد أستجير برب الناس ملك الناس وهو ملك جميع الخلق إنسهم وجنهم إعلاما منه بذلك من كان يعظم بعض الناس تعظيم المؤمنين ربهم أنه ملك من يعظمه... وقوله إله الناس يقول معبود الناس الذي له العبادة دون كل شيء سواه"(1). هذا تفسير مستوحى من الجو العام للسورة يتفق والمنحى العقدي الذي يريد الله أن يدفع الناس للإقرار به ربّاً وملكاً وإلهاً.
وقال ابن خالويه (ت370هـ): "قرأ الكسائي (بربِّ الناس) بالإمالة. وإنما أمال ليدل على أن ألفه منقلبة من ياء، والأصل... في (الناس) هو: (النيس)... وسمعت ابن الأنباري (2) يقول الأصل في (الناس) هو: (النوس). وجائز أن يكون (النسيّ)، من (النسيان)... وفيه قول رابع، قال سيبويه (3): الأصل في (الناس) هو: (الأناس)... ملك بدل من ربّ... والناس يكون واحداً وجمعاً... إله... بدل من ملك..."(4). وقف ابن خالويه على السورة من زاوية (الإعراب) واللغة فأوفى وأوعب، وليست هذه بغيتنا!.
وقال ابن جني (ت392هـ):"فكان معنى الْمَلِك أليق بالربوبية والإلهية من معنى الْمِلْك إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً فكما يوفق بين الألفاظ في القوافي والسجوع والمقاطع فكان ينبغي أن يوفق أيضاً بين المعاني"(5). إن نظرة ابن جني هذه متقدمة جداً في مناسبة الألفاظ فيما بينها وتوافقها لأداء المعنى، فالتناسب بين رب وملك وإله مقصود ومتوافق.
وقال مكي بن أبي طالب (ت437هـ): "قوله تعالى (برب الناس) أصل الناس عند سيبويه أناس... قال ابن الأنباري: الناس جمع لا واحد له من لفظه... ووزن الناس من الفعل فَعْل وأصله نَسْي من نسيتُ فُأخرت العين وقدمت اللام فصارت في الحكم نيساً... (ملك الناس) و(إله الناس) بدل من (ربّ) أو نعت له"(6). كرر مكي ما سُبِق إليه في اللغة والإعراب، وليس هذا مرادنا!
وقال الطوسي (ت460هـ): "هذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد (ويدخل فيه المكلفون يأمرهم أن يستعيذوا (برب الناس) وخالقهم الذي هو(ملك الناس) ومدبرهم وإلههم (من شر الوسواس)... و(رب الناس) هو الذي خلقهم ودبرهم على حسب ما اقتضته الحكمة، وقوله (ملك الناس) إنما خص بأنه ملك الناس مع أنه ملك الخلق أجمعين لبيان أن مدبر جميع الناس قادر على أن يعيذهم من شر ما استعاذوا منه... ولم يجز ههنا إلا ملك... وليس كذلك مالك، لأنه يجوز أن يقال: مالك الثوب ولا يجوز ملك الثوب، ويجوز أن يقال ملك الروم ولا يجوز مالك الروم... وقوله (إله الناس) معناه أنه الذي يجب على الناس أن يعبدوه"(7). ينطلق الطوسي هنا منطلق الطبري مستظلاً به في توجيه معاني (الرب والملك والإله) توجيهاً لا يخرج عمّا يدعو إليه التسليم لله عَزَّ وجَلَّ والاعتراف  بأنه المتصرف في شؤون الخلق، وأنه الملجأ والملاذ والمستعان به.
وقال الدامغاني (ت478هـ): "الرب هو المالك والسيد، قوله تعالى في سورة يوسف ﴿ارْجِعْ إِلى رَبِّك﴾ (8) أي إلى مالكك وسيدك، وكقوله تعالى: (إِنَّهُ رَبِّي) (9) أي سيدي... الرب: الكبير، قوله...﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ﴾ (10) يعنون كبيرك وأخاك هارون" (11). "الْمَلِك: يعني الغناء والثروة، قوله تعالى: ﴿وَجَعَلكم مُلُوكاً﴾ (12) يعني أغنياء، أهل ثروة... الْمَلِك: الإمارة، قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُم نَبِيُّهُم إنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُم طَالُوتَ مَلِكاً﴾ (13) يعني أميراً عليكم" (14). "الناس، تفسير الناس على عشرة أوجه (خاصة وعامة). فوجه منها الناس: يعني إنسانا واحدا، قوله تعالى ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ (15).
والوجه الثاني: الناس يعني الرسل، قوله تعالى: ﴿إنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (16)، والوجه الثالث: الناس يعني المؤمنين خاصة، قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (17) والوجه الرابع: الناس يعني مؤمني أهل التوراة، قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ (18)، والوجه الخامس: الناس يعني بني إسرائيل خاصة، قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ (19) والوجه السادس: الناس يعني أهل سفينة نوح، قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ (20)، والوجه السابع: الناس أهل مصر، قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ" (21)، والوجه الثامن: الناس يعني أهل مكة، قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ﴾ (22) والوجه التاسع: الناس يعني جميع الناس، قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (23)، والوجه العاشر: الناس ربيعة ومضر، قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ (24).
إن هذا التقصي الدقيق لهذه المفردات وما عبرت عنه في القرآن الكريم هو المفتاح الوحيد الذي به تتحرك الدلالة في سياقها اللغوي الذي اهتدى إليه الدامغاني، معززا بالاستعمال القرآني ومناسبته، وهو الذي سيكون منطلقا في تفسير الآيات الثلاث - وقال الراغب الأصفهاني (ت502 هـ) : "إله ...جعلوه اسما لكل معبود لهم"(25)، و"الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حدِّ التمام،... ولا يقال الربّ مطلقا إلا لله تعالى... ويقال ربُّ الدار وربُّ الفرس لصاحبهما وعلى ذلك قول الله تعالى:"اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ.. من الآية 42 من سورة يوسف"(26). "الملك هو المتصرف بالأمر والنهي في الجمهور"(27) هذه المعاني سنهتدي بها لاحقا فيما نذهب إليه.
وقال الكرماني (ت505 هـ): "كرَّر الناس خمس مرات، قيل: كرّر تبجيلا لهم على ما سبق، وقيل: كرّر لانفصال كل آية عن الأخرى لعدم حرف العطف، وقيل المراد بالأول: (الأطفال) ومعنى الربوبية يدل عليه، وبالثاني: (الشُّبَّان) ولفظ الملك المنبئ عن السياسة يدل عليه، وبالثالث: (الشُّيوخ)، ولفظ إله منبئ عن العبادة يدل عليه، وبالرابع: (الصالحون والأبرار) والشيطان يولع بإغوائهم، وبالخامس: (المفسدون والأشرار) وعطفه على المتعوّذ منهم يدل على ذلك"(28).
...........................
الهوامش:
(1)    الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن، 12/228.
(2)    هو أبو بكر محمد بن القاسم، توفي سنة 327هـ أخذ عن ثعلب وكان من أشهر نحاة الكوفة وأعلم زمانه باللغة والأدب، له: المذكر والمؤنث، وشرح القصائد السبع الجاهليات الطوال، والإيضاح في الوقف والابتداء، وغير ذلك.
(3)    هذا رأي الخليل. ينظر العين، مادة (ن و س).
(4)    ابن خالويه: إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم، مكتبة المتنبي، القاهرة، مصور عن نسخة دار الكتب المصرية، 1941م، ص238.
(5)    ابن جني: المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، 2/376.
(6)    مكي بن أبي طالب: مشكل إعراب القرآن، ص815.
(7)    الطوسي: التبيان في تفسير القرآن، 10/435-436.
(8)    يوسف/50.
(9)    يوسف/23.
(10)    المائدة/24.
(11)    الدامغاني: الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز، تحقيق محمد حسن أبو العزم الزفيتي، القاهرة، 1995م، 1/378.
(12)    المائدة/20.
(13)    البقرة/247.
(14)    الدامغاني: الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز، 2/206.
(15)    آل عمران/173.
(16)    البقرة/143.
(17)    البقرة/161.
(18)    البقرة/13.
(19)    آل عمران/3-4.
(20)    البقرة/213.
(21)    يوسف/49.
(22)    الإسراء/60.
(23)    النساء/1.
(24)    البقرة/199.
(25)    الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن، 31.
(26)    السابق، ص190.
(27)    السابق، ص475.
(28)    الكرماني (محمود حمزة): أسرار التكرار في القرآن، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الفضيلة للنشر والتوزيع والتصدير، القاهرة، 1977م، ص257-258.

تعليق عبر الفيس بوك