العالم بين اللاقطبية والنظام متعدد الأقطاب (1)

...
...
...

ماهر القصير - السعودية
باحث في السِّياسة الدُّوليّة

 

ينتظر العالم ولادة حالة جديدة لتوزيع مركز النفوذ والقوى الدولية خصوصا بعد التحولات والاشتباك في الشرق الأوسط مما يستتبع رسم خارطة جيوسياسية جديدة وانتقال ساحات الصراع والتشابك الدولي بين الأقطاب الدولية الصاعدة وسقوط القطبية الأحادية التي كانت تهيمن في فترة التسعينات حتى 2001م مما أدى لنشوء تكتلات وتحالفات دولية يتمركز بها أطراف الصراع لقيادة عملية حماية مصالحهم ضمن منظمات جديدة تقوم على أفكار تختلف عن حقبة القرن العشرين التي كانت تقوم على الإيديولوجيات وسباق التسلح، أما التحالفات الجديدة تقوم على الاقتصاد والسيطرة على مصادر الطاقة وطرق إمدادها وتوسيع مناطق النفوذ لدول صعدت على الساحة الدولية وانكفاء كتل وقوى دولية وفقدان قدرتها على السيطرة  لساحاتها الخلفية, و كل هذا يستتبع إلقاء الضوء على القوى العظمى الصاعدة ومشروعها الأورآسيوي وتمددها عالميا اقتصادياً وجيوسياسياً وعسكرياً وبالمقابل الانكفاء الأمريكي على الساحة الدولية ودخول أمريكا بالعصر الباسيفكي وانفصال المشروع الأمريكي عن المشروع الأوربي وسنرى أيضاً المنظمات الدولية التي ستقود مصير البشرية في العصر القادم وتأثيرها على العلاقات الدولية والتي تنضوي تحتها تكتلات وأحلاف إقليمية ودولية.
ونقدم هنا استعراضا للأسباب والمقدمات التاريخية التي دفعت لنشوء هذه المنظمات والتكتلات وأبعادها ومجالها الاستراتيجي الجيوسياسي والجيواقتصادي على المستوى العالمي وحتمية التصادم بين الأقطاب الجديدة و الغرب والتسوية بينهم على أسس جديدة حيث كلٌ له مشروع يسوِّق له ويستقطب الحلفاء لأجله وسنرى تداخل المصالح واختلاف مستوى التعاون حسب الضغوط التي تمارس على أي طرف.
حسب الأستاذ مالك عوني مدير تحرير مجلة "السياسة الدولية" القاهرية في بحثه - نحو إطار لفهم موقع التاريخ من التغيرات العالمية الراهنة: من المستقر في التقاليد العلمية استحالة تفسير الواقع بدون العودة إلى التاريخ لفهم العوامل التي حكمت حركة التطور في مراحلها التي اكتملت بالفعل‮.‬ لكن مدي حضور التاريخ كنموذج يمكن تكراره في المستقبل هو موضوع جدل كبير في العلوم المختلفة،‮ ‬طبيعية كانت أو اجتماعية‮. ‬لكنه بالرغم من ذلك،‮ ‬يبدو حاضرا بكثافة في خطاب القوى الفاعلة في كلتا العمليتين التطوريتين المشار إليهما، وكذلك في الاجتهادات التي تعنى باستشراف السيناريوهات المستقبلية المحتملة‮.
وفي الواقع، فإنه يغلب على محاولات الاستدعاء تلك‮ ‬غائية سياسية، وليس موضوعية علمية، حيث يمثل استدعاء كل منها محاولة لبناء وعي زائف بالواقع الجديد،‮ ‬الآخذ في التشكل دوليا وعربيا، في محاولة للتأثير في مسار تطور هذا الواقع، على كلا المستويين، وتوجيهه وجهة تخدم مصالح أطراف بعينها،‮ ‬أو تحقق‮ ‬غاياتها،‮ ‬وجهة قد لا تعززها بالضرورة معطيات الواقع والتوازنات المحددة لحركته‮.
‬استنادا إلى هذا الفهم، فإننا نري أن الاعتماد على توصيفات أو أطر تفسير تاريخية ذات طبيعة سكونية‮ ‬(Static)، لا يمكنها أن تقدم فهما سليما لما يجرى في عالم اليوم عامة، وفي عالمنا العربي خاصة،‮ ‬بل يتعين الاعتماد على اقتراب يراعي الطبيعة التطورية الهيكلية وغير المكتملة للواقع الراهن‮.
‬ويكشف استقراء تطور علم العلاقات الدولية عن هيمنة ثلاثة اقترابات منهجية رئيسة‮ (‬أو مدارس‮) ‬هيمنت على الجهد التنظيري في إطاره، هي الاقتراب السلوكي‮ ‬(Behavioral Approach)، والاقتراب الهيكلي‮ ‬(Structural Approach)، والاقتراب التطوري‮ ‬(Evolutionary Approach)‮. ‬ورغم الانتقادات التي وجهت لكل من تلك الاقترابات، فإن‮ ‬غاية ما أنتجه العلم حتى الآن هو محاولات لتجاوز تلك النواقص في إطار المقولات الرئيسة لكل من هذه الاقترابات،‮ ‬في إطار ما بات يعرف بالحركة الـ‮ (‬ما بعدية‮)‬،‮ ‬دون أن يتم تجاوز مقولات هذه الاقترابات بشكل كامل‮.‬
يعكس التباين بين تلك الاقترابات المعضلة بين السكوني والتطوري،‮ ‬والتي تواجهها أي محاولة علمية لفهم ما يجري في عالم اليوم،‮ ‬مثلما تمت الإشارة آنفا‮. ‬ويركز الاقتراب السلوكي على رصد وفحص السلوك والظواهر القابلة للملاحظة المادية والقياس‮. ‬في المقابل،‮ ‬يركز الاقتراب الهيكلي على رصد هياكل للقوة والتفاعلات‮ ‬غير قابلة للملاحظة والقياس بالضرورة، باعتبارها،‮ ‬أي تلك الهياكل، هي المحددات الفعلية لأي سلوك‮. ‬وتعد المشكلة الرئيسة في هذين الاقترابين هي طابعهما السكوني، حيث يركزان على ما يتصوران أنه واقع قائم وثابت ومستقر نسبيا،‮ ‬يلزم وصفه وتفسيره‮. ‬
وحاول الاقتراب التطوري تجاوز هذه المشكلة التي تعيق دراسة مراحل التحول والانتقال والعمليات التطورية عامة، حيث يحاول هذا الاقتراب بداية الجمع بين كلا الاقترابين السابقين، من خلال افتراض وجود تفاعل بين السلوك القابل للملاحظة،‮ ‬والهيكل‮ ‬غير القابل للملاحظة، بحيث إن تفسير أي ظاهرة يعتمد على فهم نتاج هذا التفاعل‮. ‬لكن هذا الاقتراب يتميز كذلك بمحاولة فهم التغير في السلوك والهياكل عبر الزمن،‮ ‬أي أن هذا الاقتراب يجعل من الزمن وعملية التفاعل عبره متغيرين رئيسيين يؤثران في الظاهرة الاجتماعية عامة وفي مآلاتها‮. ‬بل ويلاحظ مناصروه أن هذا التفاعل عبر الزمن يمكن أن يحول السلوك،‮ ‬إذا تواتر،‮ ‬إلى هياكل جديدة للقوة أو العلاقات،‮ ‬أو في المقابل ينفي هياكل قائمة،‮ ‬إذا جرت حركة التفاعل في اتجاه معاكس لها. (...)
ويمثل انهيار الاتحاد السوفيتى نقطة فاصلة فى حركة التطور السياسى العالمى خلال القرن العشرين، بحيث أدى ذلك بالضرورة إلى أحداث تحولات جذرية فى كافة التفاعلات السياسية والاقتصادية والعسكرى والقيمة على المستوى العالمى وقد وبدت هذه المتغيرات ذاتها تحولات مماثلة فى ظاهرة الصراع الدولى، ذلك أن الظاهرة المذكورة كانت تتحدد دائما فى ضوء هيكلية النظام الدولى وعلاقات القوة السائدة فيه وينبع ذلك من أن انهيار نظام القطبية استثنائية أدى إلى توليد مصادر جديدة للصراع الدولى على مستويات عديدة، إذ تسبب هذا الانهيار فى إنهاء الحاجة إلى المناهج العالمية الشاملة للأمن، والتى كانت تمثل مطلبا حيويا فى ظل التصاريح والتنافس بين خصوم استراتيجيين قادرين على التحرك الفاعل على امتداد الساحة العالمية وبالتالى، أدت هذه الوضعية إلى فقدان وانهيار ميكانيزمات الاستقرار وضبط الصراع التى طورتها القوتان العظميان فى ظل الحرب الباردة فى إطار قيامهما بإعادة تكييف كافة الصراعات الإقليمية فى العالم وفقا لصراعهما المركزى، الأمر الذى كان قد أتاح السيطرة على تناقضات المصالح الاقتصادية داخل المنظومة الرأسمالية العالمية بغرض التركيز على التمديد العسكرى السوفيتى، علاوة على قيام السوفييت بكبح الانقسامات العرقية المريرة داخل البلاد وفى أوروبا الشرقية، فضلا عن احتواء العديد من صراعات العالم الثالث والحد من احتمالات التصعيد فيها حينما بدأ أن ذلك يمكن أن يجر القوتين الأعظم ذاتهما إلى مواجهة شاملة.يعتبر الصراع أحد جانبي التفاعلات الدولية ويمتد بحكم هذه الصفة إلى كافة مجالات الحياة الإنسانية وبالتالي، تتعدد مصادر الصراع لا المجتمع الدولي، بحيث تشتمل على مصادر نفسية وتاريخية وجغرافية وسكانية واقتصادية وأيديولوجية ونظامية ويمثل ذلك عموما الشكل الإجمالي لمصادر الصراع الدولي، إلا أن الأوزان النسبية لهذه المصادر تختلف باختلاف النظام الدولي وتوزيع القوة وعلاقات القوة بين أطرافه وفى ظل هذه الوضعية، كان المصدر الرئيسي للصراع الدولي خلال الفترة ما بين 1945ـ 1990 متمثلا في المصدر الأيديولوجي، حيث انقسم العائم إلى معسكرين اشتراكي ورأسمالي تقود كل منهما دولة عظمى (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى) ، وكان كل منهما يتسلح بأيديولوجية عالمية شاملة تمتلك محتوى أخلاقيا، ولها القدرة على تفسير التاريخ الإنسانى وتحديد الأهداف البشرية طرق الوصول إلى تحقيقها وقد ولد الصراع الأيديولوجى تلك الحقبة بدوره طائفة متنوعة من مصادر الصراع الأخرى على كافة المستويات .(...)
يتبع....

تعليق عبر الفيس بوك