العقل الواعد والعقل الراكد

مرفت عبد العزيز العريمية – كاتبة وباحثة عمانية

 
في قصة الحي بن اليقظان أراد ابن طفيل عبر بطل القصة الفلسفية أن يؤكد على حقيقة مفادها أن عقل الإنسان كجهاز فطري ينمو  بتطور بدنه، وإن الإنسان مهما كانت بيئته يستطيع أن يفكر ويستنتج ويصل إلى الحقائق  الكونية معتمدا على الفطره الطبيعية فالفطرة هي التي تقوده إلى  اكتشاف العالم  بالرغم من أن بطل القصة  نشأ  في الغابة وقد أرضعته ظبية.
 ويرى ابن طفيل أيضا أن عقل الإنسان يكون أنقى في التفكير إن نما بعيدا عن الخبرات الملقَّنة  التي تأتي من محيطه الاجتماعي وقد لاقت هذه النظرية قبولا من الباحثين والفلاسفة في مختلف الأزمنة إلا أن  بعض الحقائق العلمية التي خرجت لاحقا أشارت إلى أن الإنسان  ابن بيئته ومحيطه، وإن عقله ينمو حسب القالب الذي وضع فيه في الزمان والمكان.
 وبين الاتجاهين  أعتقد أن كليهما يحمل شيئا من الصحة؛  فالطفل الذي يتربى في بيئة تساعده على التفكير والتوصل إلى الحقيقة من تلقاء نفسه يكون أكثر إبداعا من الطفل الذي ينشأ في بيئة  تحدُّ من تفكيره وتعتبر التفكير والأسئلة هَمٌّ وعيبٌ، ومع وجود استثناءات لمبدعين نشأوا في مجتمعات تقاوم التفكير والإبداع لكنهم أصبحو مبدعين وعلماء شقُّوا طريقهم وسط المصاعب والتحديات.
والحقيقة من وراء ذلك يعود إلى دور التربية والقدوة وتأثيرهما العميق في بناء شخصية الطفل ولعل توماس اديسون وغاليليو كانا نموذجين وبرهنا على صدق هذه النظرية.
يقول أينشتاين إن الانسان يميل إلى أن يخضع الكون إلى أسس ومعايير اعتاد عليها ويعتبر أن غير ذلك خروج عن المألوف ومن هنا ينشأ التعصب والتطرف الفكري.
بينما يؤمن البعض بأن هناك أجناسا أكثر ذكاءً من أجناس أخرى إلا أن هذا القول لم يثبته العلم فالذكاء والعبقرية تنشأ لو توفرت معطيات التعلم المستمر مع تكرار المحاولة حتى تحقق النجاح، مع خوض الكثير من التجارب بهدف كسب المعرفة  مع التفكير في حل المشكلات وأهم عنصر هو  الفضول والبحث عن الإجابات للأسئلة.
ويؤكد فرانتز بواس  في كتابه عقل  الإنسان البدائي بأن الفوارق التي نراها في تطور المجتمعات لا تعود إلى عوامل جينية، أو بيولوجية للبشر؛ بل تعود إلى عوامل ثقافية وتاريخية  والعامل الحاسم في حياة الإنسان هو اشتغال الإنسان بفكره وعقله.
 إن الإنسان الذي  يتجول في الآفاق وكثير الإطلاع والقراءة في مختلف الاتجاهات والعلوم  ويسعى إلى اكتساب الخبرات من خلال الاحتكاك بالأخرين وخوض التجربة يستطيع أن يحرر عقله من الجمود والقيود وكلما قل اطلاعه وأكثر من الانعزال  يكون ضحية سهلة في براثن التعصب والأفق الضيق.
 يقول مارسيل بروست إن رحلة الاكتشاف الحقيقية  لا تكمن في البحث عن مناظر طبيعية جديدة؛ بل في  النظر في المناظر الطبيعية بطريقة جديدة كليا.
إن الصراعات بين  البشر كانت ولا تزال مبنية على  رفض تقبل الأخر كما هو على اعتبار أن الآخر على خطأ  ونحن على صواب في الوقت الذي يرانا الأخر أننا على خطأ وهو على صواب! وهذا المعتقد يكون نتيجة القوالب التي اكتسبها وتقولب الإنسان فيها من المحيط الذي يعيش فيه ورفضه  التفكير واكتساب فكر جديد.
إن عقل الإنسان اًشبه ما يكون بإناء كبير في أسفله فتحة تصريف فكلما بحث وتجول في الكون واكتسب خبرات حياتية جديدة من خلال  الاطلاع والاحتكاك، أصبح أكثر قدرة على تصريف الأفكار غير السليمة،  أما الإنسان الذي  لا يفكر فإن عقله يتغذى على ما ورثه من أفكار والتي مع مرور الوقت قد تتعفن وتسبب في تجمد تفكيره وسد فتحه التصريف وقد يقود ذلك إلى فيضان الأفكار غير السليمة وتلويثها المحيط الاجتماعي بأسره.  
يقول فرانز بواس عالم الانثروبوجيا إن حياة أي مجتمع عبارة عن مجموعة أفراد  يفعلون ضمن إطار فردي أو جماعي  ومحاطين بمجموعة من الأنشطة ومنتوجات ورثوها من أجدادهم، وقد يكون هؤلاء محاطين بموارد طبيعية  ثمينة لن يستطيعوا استثمارها إن لم يمتلكوا المعرفة اللازمة لها فالصناعة في مجال المعادن تحتاج إلى معرفة جديدة يجب أن يكتسبها الفرد وحتى يكتسبها يجب أن يكون مستعدا لاكتساب أفكار جديدة مختلفة عن الموروث.
إن الكثير من مشكلاتنا سببها اعتيادنا  تطبيق حلول مكتسبة من المحيط  الاجتماعي ونخشى أن نفكر أو نكتسب فكرا جديدا  لأننا نخاف أن نكون مختلفين ونخاف أن نتعرض إلى الرفض من المحيط الاجتماعي وأحيانا نسعى إلى تطبيق أفكار مكتسبة لم تعد صالحة لواقعنا ونحن نعلم  أن تلك الحلول غير مجدية.
إننا نعيش أزمة الخوف من التفكير ونعاني من تبعاتها، ولا يمكننا أن نوقف زحف التطور والتغيير؛ بل نحن في مسيس الحاجة إلى مواكبة التغيير كسُنَّةٍ من سُنَن الحياة.

تعليق عبر الفيس بوك