إحياء "العِبَادة العُمْرَانيِّة".. الفحوى والجدوى

أ.د/ علي ثويني – خبير باليونسكو – السويد

 

يمكن أن تكون  الدعوة الصريحة للإعمار من أهم ما ميز الإسلام عن الأديان الأخرى، فقد نُسِب في الأثر إلى النبي عيسى المسيح (ع)، قوله: (الْدُّنْيَا قِنْطَرَة فَاعْبُرُوْهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا)، أو(تِلْكُم الْدُّنْيَا فَلَا تَتَّخِذُوْهَا قَرَارا)، أو (من ذا الذي يبني فوق موج البحر دارا؟! تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا)؛  - أورد ذلك  ابن حزم الأندلسي (ت: 456هـ\1063م) في كتابه "طوق الحمامة" -، بينما نجد في القرآن الدعوة معاكسة كما في قوله  تعالى:  "هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ" (سورة هود- الآية 61).

وعمارة الأرض إنما تتم بالغرس والزرع والبناء، والإصلاح والإحياء، والبعد عن كل إفساد وإخلال كما في قوله تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا (سورة الأعراف – الآية 56 و85).
وإعمار الأرض هو ثالث درجات المقاصد بالاسلام، التي أولها "العبادة"، وثانيها "استخلاف الله للإنسان في الأرض"، وذلك بإقامة الحق والعدل ونشر الخير والصلاح.
والاستخلاف يعني أن الإنسان وصيٌّ على هذه البيئة لامالكلها، مستخلف على إدارتها واستثمارها وإعمارها ومؤتمن عليها. ومعني ذلك أنه ليس ملكية مطلقة في الإسلام أي أنه ليس من حق أي فرد أن يتصرف فيما يملك كيفما يشاء: فالمِلكيّة محددة بضوابط وشروط؛ منها حسن استغلالها وصيانتها والمحافظةعليها من أي تدمير أوتخريب وحتى نفسك لاتستطيع أن تتصرف فيها كيفما تشاء، فأنت آية من آيات الله ملتزم بالمحافظة على نفسك وحمايتها وعدم إلقائها فى التهلكة.

وحسبنا أن الاحتفاء بالأرض استرسل من ثقافات الشرق القديم، ولاسيما عند الشعوب الزراعية أكثر من الرعوية. ونعزي الاعتبار والتبجيل لبعض المواقع وإقامة الصروح إلى نوع من مراسم تبجيل الأرض كونها قدمت له الغَلَّة الضامنة لبقائه. وعلى النقيض فإن الإفساد في الأرض عبارة عن إفناء مواليدها وكمالاتها أومنعها عن البلوغ، أوتحريف كلماتها التكوينية أو التدوينية، والإفساد معصية لله. ومن أبرز ذلك " إحياء الأرض الموات " أي : الأرض المتروكة، التي لا يُنتفع بها، سواء أكان ذلك بسبب انقطاع المياه عنها، أو استيلاء المياه أو الأحجار، أو الرمال عليها، أو طبيعة تربتها.
 
وتبرز أهمية ذلك عندما نراجع خطورة مشكلة " التَّصَحُر" في العالم، حيث يتعرض 30% من سطح الأرض لخطر التصحر، مما يؤثر سلبًا على حياة مليار شخص في العالم، والمسألة في تزايد خطير، فالعالم يفقد سنويًا نحو 10 مليون هكتار من الأراضي بسبب التَّصَحُر، وهذا التَّصَحُر يدفع السكان للهجرة واللجوء إلى بقاع أخرى، ويكفي أن نعرف أن عدد اللاجئين بسبب التَّصَحُر قد بلغ 10 ملايين لاجئ في عام 1988 فقط!!  وتتسبب مشكلة التَّصَحُر في خسارة اقتصادية سنوية تقدر بنحو 42 مليار دولار. بالإضافة إلى المشاكل الصحية، والاجتماعية، والسياسية، نتيجة انتقال أعداد غفيرة من البشر من بلد إلى آخر..
 والعالم الإسلامي يقع في صلب ذلك؛ بل إن الكثير من الدول الإسلامية تقع في مقدمة الدول التي تعاني من "التَّصَحُر"، ويأتي على رأسها  السودان، والصومال، وموريتانيا، والنيجر، ونيجيريا "، وغيرها.. بل إن مشكلة التَّصَحُر تمس بعض البلاد الغنية بالماء مثل مصر!! ، ومن العجيب أن مصر تفقد نحو ألف متر من الأراضي الزراعية كل ساعة بسبب التَّصَحُر!. ولعلّ المتأمل لهذه الأرقام، ودلالتها الخطيرة يدرك حجم المشكلة الضخمة التي تصدى لعلاجها الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا.

ويشترط لتصنيف الأرض مواتًا أن تكون بعيدة عن العمران، حتى لا تكون مرفقًا من مرافقه، ولا يُتَوقع أن تكون من مرافقه. ويُرجع في معرفة مدى البعد عن العمران إلى القوانين التي يسنها الحاكم لحفظ المصلحة العامة. وقد اتفق العلماء على أن إحياء الأرض سبب في ملكيتها، ولكنهم اختلفوا في اشتراط إذن الحاكم لهذا التملك، فقرر الإمام أبو حنيفة، أنه لا بد من إذن الحاكم، وقراره في إعطاء ملكية الأرض لمن أحياها، أما الإمام مالك فقد فرق بين الأراضي المجاورة للعمران والأراضي البعيدة عنه، فإن كانت مجاورة فلا بد فيها من إذن الحاكم، أما إن كانت بعيدة فلا يشترط فيها إذنه، وتصبح ملكًا لمن أحياها، أما بالنسبة للإمام الشافعي وابن حنبل فقد ذهبا إلى أن إذن الولي ليس ضروريًا لإحياء الأرض وتملكها. وذلك تشجيعًا على استصلاح الأراض من مبادرات بشريه ذاتيه.

لم تكن الدعوة للاهتمام بالبيئة قد تولدت في أوربا إلا في القرن التاسع عشر من خلال حنين رومانسي لأيام الهدوء والطبيعة العذراء قبل حلول ضجيج مراجل البخار. والمنحى البيئي حقيقة أزلية، آمن بها الإنسان منذ بداية وعيه، حتى جاء الإسلام وأطَّرَها، وأمسى جانب من الإيمان ودرجة منه. وهذا ليس أمر ديني محض (ثيولوجي) كما يدَّعي البعض، فالحدود الروحية تسري عند عامة الناس أكثر من الوضعية في كثير من الأحيان، التي تبقى مرهونة بسمو الإدراك الحضاري، وحسّ الحاجة للارتقاء.

إن التداخل بين المفاهيم العلمية والروحية جديرة بأن تكون مادة واعية تلقن من خلال منظومات التعليم، والتأكيد على أن عمارة الأرض هي روح ومادة، وأن الأرض لاقيمة لها دون الزرع والضرع لتثمر فيها الحياة، اقتداءا بالنبي (ص) في حديثه: (إذا قامت الساعة وفي يدي أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل)(رواه أحمد في مسنده).
وحري بنا الدعوة إلى (العبادة العمرانية)، وهي الغاية المنظورة للدين، فلم يأت الدين في رأينا إلا من أجل العقل والعدل. وإن الفتنة والبدعة هي في الانصراف عن عمارة الكون واستثمار مكنوناته التي سخرها الله. والبدعة والانحراف وحتى الكفر هو في القعود والتقاعس والدعة والاتكالية, وحبس النفس في سجون الهوى والعادات والتقاليد المتخلفة والبعيدة عن العقل، الماكثة من أزمنة الدعة التي مازلنا بها. والفتنة والبدعة هو تحويل الإسلام إلى طقوس متواترة دون روح وهيئات كهنوتية تعتاش كالطفيليات.. وتفريغه من غاياته ومقاصده الجليلة الجميلة في إقامة الحياة الكريمة, وسيادة العدل والأمن والسلام بين الأوطان. وفي تحقيق رسالة الرحمة في الأرض. وتلك العبادة الروحية من شأنها أن تصقل النفوس وتهذبها وتؤهلها للسير باستقامة وأمانة وصدق وإخلاص في ميادين الحياة. و(العبادة العمرانية) تؤهل الإنسان وتزوده بالعـلم والمهارة والخبرة, ووسائل الإبداع والارتقاء, وبأسباب مواصلة البحث والاستكشاف.

وفي هذا لابد من الإقرار بأن ليس من المهم أن نملك ونتشدق بما لدينا والأهم هو الطريقة التي نتعامل بها مع ذلك الرزق. وقد أنجز الغرب في تقدمه العلميّ لكنه تناسى الأخلاق ولاسيما في السياسة وهذا ما أصابنا للأسف.. فلابد من الإقرار بأننا والآخر شركاء في الأداء الحضاريّ, وشركاء وفي النهوض بمهمة "عمارة الأرض" وإقامة الحياة؛ لذا فإننا نؤمن أن دائرة المشترك مع الآخر تأخذ بالانفتاح والانفراج بعد دائرة الاعتقاد المنغلق.. فهناك مساحة مشتركة وواسعة للتعايش والتعاون والتفاهم والتنافس في رحاب الفهم والتفاهم بعيدا عن الأنانيات التي ستحتم على الإنسان العودة للبدائية الأولى بعد أن يخرب بيديه كل مابناه.

إن مبررات النهوض بمسؤوليات عمارة الأرض  في دين الإسلام، هي الحقيقة التي لا يتكلم عنها "سدنة الدين" بمجتمعاتنا إلا ما ندر, حتى لو صنفها الإسلام أساسًا للإيمان, وأدخلها في دوائر الجزاء والثواب والعقاب, تأكيداً على التلازم والتكامل بين محاريب العبادة الروحية والعبادة العمرانية.
ومن أكثر الآثار المدمرة على عمارة الأرض اليوم هو (الإرهاب) المسيَّر من جهات عدائية معلومة ومجهولة، ووجد له مبررات واهية مُستلة من فهم متشنج ومتخلف ومنحرف لتعاليم الدين، فاستحلَّ القتل وترويع البلاد والعباد، وأدى إلى "خراب العمران". نقول ذلك بعد ماعانيناه من نزق وتهور نأيا عن الحلول الدينية البناءة بالتسامح والصفح والقبول بالآخر ونبذ التكفير، و اجتناب التخريب وإعمار الخراب.

تعليق عبر الفيس بوك