مواجهة اضمحلال المشروع العربي

 

 

عبيدلي العبيدلي

 

عند المنعطفات الحادة في تاريخ الأمم، وعلى وجه الخصوص تلك الأمم التي تتمتع بالحيوية والدينامية التي تبيح لها البحث عن موقع متقدم بين صفوف الأمم، التي تتبوأ مواقع قيادية على ساحة العلاقات الدولية، مثل الأمة العربية، تطفو على سطح أفكارها مجموعة من الخواطر التي تُعبّر في جوهرها عن مشروعات هذه الأمة وتعكس طموحاتها.

اليوم، لا يختلف اثنان أننا العرب نمر بمنعطف حاد، ليس على مستوى العلاقات الدولية فحسب، بل على صعيد التفاعل الحضاري بين الأمم. وبسبب ذلك بتنا نشهد، ما يمكن وصفه بمشروعات عربية تطفو على سطح التفاعل الفكري العربي، يمكن توصيف الأبرز بينها في الفئات التالية:

  1. المشروع التيئيسي، وهو أسوأ بكثير من المشروع اليائس، فبينما هذا الأخير يحصر طروحاته في ذاته، يروج الأول لتلك الطروحات اليائسة، ويسعى لتطويرها كي تكتسب مقومات المشروع المتكامل الذي يحاول غرسه عميقا، في نفوس الأجيال المستقبلية القادمة. يرتكز هذا المشروع في جوهره على دعوات تحث على العودة إلى زمن الاستعمار والارتماء في أحضانه. لأنّ ما حل بالعرب اليوم من تشرذم سياسي، وتشظ اجتماعي، وتخلف اقتصادي، إنما هو نتيجة منطقية، وفقا لمنطق حملة راية هذا المشروع، لرحيل الاستعمار من المنطقة. من ثم، وبناء على مسوغات منطق هذا المشروع، ينبغي على العرب استجداء القوى الاستعمارية كي تقبل بالعودة لوجودها المباشر في المنطقة العربية، وتسييرها دفة "الحياة" فيها.
  2. المشروع التخاذلي، وهو القائم على مقولة أنّه "ليس بالإمكان أحسن مما كان". وهذا يطالب النخب المفكرة العربية أن تخضع نفسها للواقع العربي، فقدر العرب، من وجهة نظر أصحاب هذا المشروع، أن يستكينوا لواقعهم، ومن "الخطأ" التمرد عليه. فكلما حاولوا التمرد، كلما ساءت الأمور أكثر، وكلما اتسعت مساحة الخطى نحو الخلف، وتسارعت وتائرها. يستحضر هذا المشروع مجموعة الشواهد العربية القائمة، ويقوم بمقارنات شكلية بينها وبين شواهد تاريخية، كي يخرج بشعاراته الانهزامية التي تخدم مكونات مشروعه التخاذلي. يتقن هؤلاء فن انتقاء الصور القاتمة، ويبرعون في طمس كل ما هو سواها. ويساعدهم ذلك على الترويج لمشروع يشيع حالة متنامية من اليأس تدعو للخضوع لما هو قائم، رغم سوداويّته وقساوته.
  3. المشروع اللامبالي، وسلوكه قريب من حياة قناديل البحر التي تسلم نفسها لتيارات البحار التي تجد نفسها فيها سوية مع اتجاه الرياح التي تتقاذفها عندما تطفو على السطح. تعجز هذه القناديل، بفضل تكوينها البيولوجي، عن تحديد مساراتها، بما فيها تلك البيئات التي يمكن أن تزودها بما تحتاجه من غذاء يمدها بالحيوية التي تعوزها كي تتمكن من الحياة. هذا المشروع الذي يختلف شكلا عن المشروعين السابقين، لكنه يلتقي معهما في نقاط كثيرة هي تلك التي تدعو للاستكانة، وتحارب مشروعات عربية من شأنها الحث على التغيير، أو المطالبة بالخروج عما هو قائم. تصل لا مبالاة أصحاب هذا المشروع إلى درجة من اللامسؤولية تخرجهم من دوائر التغيير التي يمكن أن تتشكل جراء حركة مكوّنات المجتمع العربي.
  4. المشروع المتفاعل إيجابيا، لكن في إطار ضيق ويتمتع أصحابه بالرغبة في التغيير، والتغيير نحو الأفضل، لكنّهم، ولأسباب مختلفة يعيشها كل فرد منهم على نحو مستقل، يرفضون تجاوز مستوى التفاعل الإيجابي الواسع القادر على استيعاب قدراتهم، وتجييرها لصالح مشروع عربي أصيل قادر على إحداث التغيير المطلوب. يحصر أصحاب هذا المشروع أنفسهم في نطاق دوائر ضيقة تمنعهم من الانخراط التفاعلي المطلوب، وتحرم المجتمعات من طاقات قادرة على إحداث النقلة النوعية الإيجابية التي بات العرب في أمس الحاجة إليها. تكمن خطورة هذا المشروع، في سعة انتشاره في صفوف مساحات واسعة من المواطنين التي تلقى دعواته استجابة قوية لديها، ومن ثم يبني أصحابه أسيجة قوية تتحول، بمرور الزمن، إلى عوائق قوية أمام أية موجة تدعو للتغيير نحو الأفضل.
  5. المشروع الرائد، وهو المشروع المنطلق من رفض حاسم غير قابل للجدل مع ما هو قائم، وغير قابل للخضوع له بناء على قناعات راسخة تستمد جذورها من تاريخ هذه الأمة وحضاراتها الموغلة في القدم. ينطلق هذا المشروع من اعتراف حقيقي، بأن ما هو قائم إنما هو محصلة تاريخية منطقية للتطورات التي عرفتها المنطقة العربية، دون أن يعني ذلك القبول بها، أو الخضوع لقوانينها العارضة. لكن حملة هذا المشروع، ليسوا فئة حالمة، وتدرك أن هذا الواقع المرير، نشر أفكار المشاريع الثلاثة المشار لها أعلاه، وغرسها عميقا في تفكير وسلوك نسبة عالية من مكونات الأمة العربية، وخصوصا في نسبة لا يستهان بها من الشباب العربي. يستمد هذا المشروع قوته من موضوعيته التشخيصية، ونفسه الطويل، واستعداده للصبر، وقبوله بتقديم التضحيات، ونظرته المستقبلية المتوازنة.

جردة سريعة لمكونات تلك المشاريع ومقوماتها، تكفي للخروج باستنتاج واحد غير قابل للمناقشة، وهو التمسك بالمشروع الرائد، ففي احشائه وحده تكمن مقومات الخروج من شرنقة الواقع العربي اليوم الذي أدى إلى اضمحلال المشروع العربي، وتشوه مواصفاته إلى درجة بات من الصعوبة بمكان الحديث عن مشروع عربي.

لكن الإشارة إلى صعوبة المرحلة في وجه أي مشروع نهضوي عربي، لا ينبغي أن تقودنا بأي شكل من الأشكال نحو مصيدة أي من المشاريع الثلاثة الأخرى، دون إغفال صعوبة القبول بالمشروع الرائد والتمسّك بأهدافه. لكنه يبقى في نهاية المطاف المشروع العربي الوحيد القابل للحياة. والمقصود بالحياة هنا هي تلك التي تبني مجتمعا مستقلا قادرًا على إحداث النقلة النوعية التي تضع الأمة العربي في المكانة التي تستحقها، دون أن يكون ذلك على حساب الحضارات غير العربية التي تحتضنها المنطقة العربية، ودون التصادم غير المنطقي حتى مع الحضارات التي تعيش خارج نطاقها السياسي أو الجغرافي.

المشروع الرائد، إن أريد له الحياة والديمومة، مطالب، قبل أي شيء آخر بالعودة إلى الداخل من أجل بناء الذات، ثم الانطلاق نحو الخارج وفق معادلة متوازنة تقوم على التفاعل الإيجابي مع الآخر دون الاستسلام له، أو الخضوع لقوانينه.