المدينةُ: فضاءُ عُمرَانِيٌّ و وِعَاءٌ ثقَافِيّ

أ.د/ علي ثويني – خبير معماري باليونسكو – السويد

 

لا يتعامل المعمار في رؤيته للمدينة على أنها "لوحة فنية لا تحدها حدود ولا تقيدها شروط؛ بل يراها بمنظار عالم السياسة الذي يحمل ريشة فنان تشكيلي, وعالم النفس بحيوية رجل الأعمال وعالم الرياضيات بفكر الفيلسوف، وعالم الجغرافيا بموضوعية رجل القانون. كما يراها بروح المؤرخ الذي يمسك بقلم الأديب واللساني ليكتب قصة الحضارة الإنسانية على رقع من الأراضي تصغر أو تمتد لتشمل القرى والمدن والبلدان. محاولا أن يرنو إلى عوالم من المثالية والفضيلة متناغم مع سر مكنون في بطون الروح.
نجد المدن التي اشتهرت بكثرة قلاعها وحصونها و(مناطق قصور الرئاسة والملكية)، والمتسمة بسمك أسوارها، توحي بأنها بنيت في زمن الحروب والقمع والخشية، كما أن المدن التي تعج بالقصور الفاخرة والحدائق الزاهرة قد بنيت في زمن الآخاء والرخاء. والمدن التي لا تتناشز بين أحيائها سمات الطبقية هي مدن أقرب للأثر القيميّ من مدن الطبقات المتناشزة المتنافرة. فلمحيا المدن قراءات أعمق، تدركها اللّبابة.
لقد أمست المدن فضاءات  للبحث عن الحرية، ومهوى التطلع للحياة المترفة، وشغلت حيزا هاما في الابداع الثقافي.  فبـﮔلگامش عمدت الوركاء، وألف ليلة وليلة اختصت ببغداد والبصرة والقاهرة، حتى لنلمس إشارات لبيبة لتلك المواشجة من خلال اسمي بطلاها شهريار وشهرزاد، بمركبين يحملان كنية (شهر) التي تعني بالفارسية المدينة. فاسم شهرزاد يعني ابنة أو وليدة المدينة واسم شهريار يعني رفيق أوربيب المدينة. وأمست"الليالي العربية" محفزا وموحى في ارتقاء الفن الروائي الغربي، الذي نضج حينما أفل الشرق الحضاري. فلم يكن (روبنسن كروسو) موجودا إلا بعد ان قرأها كاتبها من (حي ابن يقظان) لابن طفيل الأندلسي ولم تكن (الكوميديا الإلهية) تخرج للنور إلا من جراء قراءة "دانتي" لرسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ولم يكن "دونكيشوت" لسرفانتس الإسباني إلا إيحاءات فلسفية آتية من عمق تراث الشرق القديم.
وأمست المدينة زاد الأدب الغربي، وتجسدت في سيرة (جان فال جان) في قصة البؤساء لـ"فكتور هوﮔو" ومجاري باريس التحتية، وكذا في قصة بين مدينتين لـ"تشارلز ديكنز"، حينما يرى أن البيوت الممتده في شارع هي كما مسرحية أو اجتماع لشخوص بعينهم، كل بيت يتكلم بذاتية أحدهم. ونجد سرد للحواري والأزقة في (بين القصرين)، و(زقاق المدق) لنجيب محفوظ، و تروي (مدن الملح) الخمسة لعبد الرحمن منيف مدن الملح بالخليج العربي، تلك المدائن التي انزاحت من عالم الصحراء لتصبح عالماً آخر تنبعث فيه رائحة النفط التي تخدر أحلام ساكنيه وتنقلهم نقلات متسارعة يتخبطون عبرها بين الوهم والحقيقة، مساحات طويلة يعبرونها بأزمان قصيرة بين قحّ  البداوة وقمة الحضارة. في ذلك العالم يصور منيف لوحات إنسانية واجتماعية.
ثمة رصد أدبي جميل للثقافة الحضرية لمدن الشرق كتبته "جينيفر سكيرس" عام 1996م، نكتشف من خلالها المحيط الداخلي للمنزل، "وعلاقته بالعقلية وطبيعة المجتمع والإنسان في زمان ومكان معينين (مصر وتركيا وإيران) من خلال رصد المنزل أو الحياة العائلية و الاجتماعية والعامة، في الفترة الممتدة بين القرنين 16-19م، أي ما بين أوج نضج ثقافة هذه المجتمعات، وبداية النهاية واضمحلالها أمام تزايد التأثيرات الأوربية المفاهيمية والفنية وهي فترة مبهمة حدثت خلالها فجوة وانتقالة بين هبوط التدوين الحضاري في الشرق وصعوده في الغرب، وأخذ في الغرب صفة الاستشراق والرحلات الذي لم يتعمق ويبلور دراسة لثقافة مدن الشرق. وفي السرد نجد دعوة من "جينيفر سكيرس" للقارئ بولوج المساكن الحضرية الثرية في تلك الفترة، والاستمتاع بأجوائها، حيث لم يتبدل فيها  المنزل الشرقي، والأسرة الممتدة، وأن للجمال حصة الأسد من الحياة.
 وإذا كان مواقف الروائيين العرب، كما الغربيين ،محددة من (المدينة)، حيث يشخصونها في أعمالهم بين الرفض والمعاداة والنفور والتضايق من المدينة والكراهية المطلقة لها، حتى يصفون المدينة، أحيانا، "بالعاهرة" وبكونها عدوة الإنسان، ومن بين هؤلاء نذكر "غالب هلسا"، و"دوستويفسكي" و"جويس، وتولستوي". ففي مناخات حروب أوروبا الطاحنة، وصولاً إلى الحرب الكونية الأولى. تفشى اليأس والإحباط لدى مبدعي الغرب، الذين شهدوا بأم أعينهم آلة الرأسمالية المسعورة، المتبرقعة بالتقدم العلمي والتقني، وهي تتجه صوب دمار البشر، وتنهش لحوم الشعوب، وتطأ بأحذيتها الملطخة بالوحل ورائحة البارود ودخان الدمار أحلامهم الإنسانية الطرية، وتحول دون تحقيق كل ما هو جميل ونبيل. لقد شهد هؤلاء المبدعون النتائج الوخيمة للحرب كالتشرد والفقر والمرض والدمار والضياع وقهر الأمم المغلوبة، واستباحة الأوطان المحتلة وحرق خضرة الأرض المزروعة، وحجب غيوم السماء والشمس والقمر بسحابة كثيفة من رماد العلم الأسود. وفي غياب المنظومة الأخلاقية الرادعة لهذا الهوس انحسر مبدعو أوربا الرومانسيون عن المشاركة في الحياة العامة للمدينة (مركز الشر). فراحوا يلعنونها ويبحثون عن البديل.. عن محطات للراحة والتوازن النفسي من أثر المشهد المرعب، الذي عكس قدرة الإنسان اللامتناهية على ممارسة إفناء النوع على خلاف أضرى الضواري، المتبرقعة بـ "الوطنية" أو "القومية".. فوجد المبدعون "الرومانسيون" ملاذاً لهم في العودة إلى الأرض والارتماء في أحضان القرية الطاهرة، والطبيعة الحانية، ونموذج الريف الوادع، هرباً من بشاعة المدينة؟!. التي بناها الإنسان للاستئناس بنوعه، للتتحول بنزقه ورعونته إلى مركز تهديد لإنسانيته.
بيد أن ثمة روائيين راهنوا على (المدينة) كونها فضاءً يجسد أفقا آخر لتشخيص التحولات العميقة الطارئة على الذات والمجتمع، بناء على ما يوفره فضاؤها من إمكانات كبيرة للتشخيص والتخييل والتعبير وبلورة الدلالات والمعاني، كونها تتجسد كـ(عالم خصب مليء بالنماذج الإنسانية والحياة والمفارقات، يستطيع الإنسان إذا رصدها بشيء من القبول أن يجد فيه عوالم لا حد لها من التجليات، وإذا كان لا بد أن يدين الحياة في المدينة فإنه لا يستطيع أن يدينها من خلال انطباعاته لعوالمها المختلفة، لا عن طريق التقرير المباشر والرفض الكلي منذ أول وهلة). إن ذلك يؤكد أن المدينة أصبحت تشكل مفهوما جديدا للكينونة، وموضوعا شائعا للرصد والاستيحاء والتشخيص والتأمل، ورمزا متعدد الإيحاءات والاستعارات والمعاني، وفضاء مفتوحا على تجدد التآويل وإنتاج الدلالات.
وإذا كان بعض الأدباء العرب، شخَّصوا في نصوصهم الروائية والشعرية جوانب من تلك الصورة الرافضة للمدينة، كصورة للاغتراب والضياع والأسى وفقدان التواصل مع المجتمع المديني المحكوم بسرعة الحركة وعدم التجانس وانفلات العلاقات الاجتماعية فيه، أمام هيمنة النزعة الفردانية، بحيث يصبح الريف لدى بعضهم ملاذا موازياً للاحتماء فيه من صدمة المدينة، ومن زيف العلاقات وغربة الموت فيها، فإن هذا الانجذاب الجديد بين الروائي والمدينة يتخذ عدة أوجه للائتلاف والارتباط، منها ما هو وجداني وحنين ماضوي "نوستالجي"، ومنها ما هو تاريخي وسياسي واجتماعي، ومنها أيضا ما هو ثقافي وفلسفي وجمالي، وذلك بحسب طبيعة التحولات الطارئة في الفضاءات  المدينية.
وثمة فضاء معرفي ثقافي يتعلق بالظاهرة اللسانية للمدينة، التي لها ما يميزها في كنف الثقافة الواحدة عن الريف والثقافات الأخرى. فرّقه الطبع وتحضّر النفس وتوق الجمع للتجمل، تنعكس بشكل جلي في لغة المدينة، التي ينظر إليها من طرف البداوة والريف شزراً، وبكونها ضرب من الدعة. وبالرغم من الرفض الشكلي لتلك الظاهرة ، لكن ثمة إغواء وجذب ونزعة للتقليد والتقمص تصيب القادمين من خارج أسوار المدينة، كي لا يشذوا ويقعوا تحت طائلة تهكم وإزدراء أهلها المترفين. وتذكر التواريخ كيف كان غنج النسوة قد وطأ بغداد بعد صعود العافية والترف، إبان القرنين  9 و10م . وحينها غنجت نسوتها (تداول الغاء بدل الراء)، وانتقلت كظاهرة لسانية إلى الموصل ثم حلب ووطأ قرطبة الشغوفة بالشرق. ويذهب البعض إلى أن تلك الظاهرة انتقلت من هناك على يد بعض الأميرات الدارسات إلى باريس لتصبح (الغين الباريسية) التي تميزها عن "لكنات" اللسان الفرنسي. بيد أن الضيم والهم ينعكس على لسان البشر في المدينة، فبعدما دمرت بغداد اختفى الغنج من أفواه نسوتها حتى اليوم.
إن طرق التماهي أوالتناص بين الأدب وشجون الثقافة والعمارة أمر مهم، ويصب في مشروع تطوير فهم الظاهرة الحضرية ويرتقي بالمعلومة العمرانية والمعمارية والفنية، لتسمو بالحس الجمالي للحياة المدنية. وإن لفت النظر إلى مشيمية العلاقة بين المدينة والأدب يصب في تنبيه الروائيين إلى توسيع مداركهم المعمارية، كجزء من سياق السرد. ونجزم أن ثراء المعلومة المدينية والمفهومة المعمارية الواردة في الرواية تعكس المستوى الحضاري ووعي المجتمع، والذي يتقمصه روائييه، حينما يكونوا شاهدًا على حقبة من عمرها ودالة على ميراثها التراكميّ.

تعليق عبر الفيس بوك